لاشك أن ماحدث مؤخراً في العلاقات بين الهند والدول العربية والإسلامية على خلفية تعليقات مسيئة للرسول (صلى الله عليه وسلم) أدلى بها مسؤولين ينتمون للحزب الحاكم (بهاراتيا جاناتا)، يعد إختباراً لهذه العلاقات في بُعدها أو شقها الرسمي، ولكن الإختبار الأهم، برأيي، هو للعلاقات على الصعيد الشعبي، حيث تتمتع الهند بصورة نمطية جيدة في الوعي الجمعي للشعوب العربية والإسلامية منذ حقبة عدم الانحياز، وماتلاها من تقارب وتواصل وتعاون على الصعد التجارية والإقتصادية والسياسية والعمالية.

التصريحات الصادرة عن الناطقة باسم حزب "بهاراتيا جاناتا" الهندي قوبلت باستنكار ورفض عربي وإسلامي واسع النطاق، حيث قام الحزب الهندي الحاكم بوقف المتحدثة باسمه وطرد مسؤول آخر، بعد إتساع موجة الغضب ضد التصريحات المسيئة، التي يرى بعض المحللين الهنود أنها تأتي في سياق التوترات الطائفية الداخلية!

لم يقتصر أثر هذه التصريحات المرفوضة ـ شكلاً ومضموناً ـ على "الصورة" والسمعة، بل تسببت كذلك في المزيد من التأزيم في العلاقات بين مكونات النسيج المجتمعي الهندي، حيث لا تحتاج العلاقات بين المسلمين والهندوس أي مسببات إضافية للتوتر والتعقيد.

اللافت في هذه المسألة أن دول مجلس التعاون قد تصدرت ـ بمواقفها الرسمية الغاضبة ـ مواقف الدول العربية والإسلامية الغاضبة، وهذا يعني الكثير سواء على صعيد السياسة الخارجية لهذه الدول، أو على صعيد توازنات القوى الإقليمية. والمؤكد أن هذا الغضب الخليجي والعربي المبرر من حيث المبدأ، لا يعني أن تنزلق ردود الأفعال الرسمية إلى إتباع ما ينادي به بعض المتطرفين والمزايدين بشأن مقاطعة الهند تجارياً أو سياسياً وغير ذلك، لأسباب واعتبارات عدة أهمها عمق العلاقات التاريخية والشعبية بين الهند والعالم العربي والإسلامي، وثانيها ضخامة المصالح الإستراتيجية المتبادلة بين الجانبين، فهناك ملايين من العمالة الهندية يعيشون في دول الخليج (مسلمين وهندوس وطوائف أخرى) يمثلون أحد مصادر الدخل المهمة للإقتصاد وملايين الأسر الهندية في الداخل، والهند مستورد رئيسي مهم لصادرات الخليج النفطية، فضلاً عن تبادل تجاري ضخم يناهز ألـ 100 مليار دولار سنوياً، فضلاً عن إعتبارات إستراتيجية أخرى تتنافر مع فكرة الدخول في قوة إقليمية مهمة كالهند في حالة خصومة أو تباعد يؤثر في مصالح الطرفين.

حزب "بهاراتيا جاناتا" الحاكم أصدر بيان رسمي قال فيه إنه "يدين بشدة إهانة أي شخصيات دينية تحظى بتقدير أتباع أي ديانة. كما يشدد الحزب على رفضه أي أيديولوجية تهين أو تحط من قدر أي طائفة أو دين. ولا يروج حزب بهاراتيا جاناتا لمثل هؤلاء الأشخاص أو لمثل هذه الفلسفة"، وبغض النظر عن الخوض في توجهات الحزب وسياساته لأنها تندرج في إطار الشأن الداخلي الذي لا يحق لطرف خارجي مناقشته، ناهيك عن التدخل فيه، فإن الحزب قد تبنى موقفاً مهماً للسيطرة على الغضب الخارجي الذي اندلع عقب هذه التصريحات، بإيقاف المسؤولة صاحبة التصريحات وإبعاد المسؤول الإعلامي الحزبي، وهو موقف جيد نسبياً، ولكنه لا يزال دون السقف المطلوب من جانب بعض الدول التي أعربت عن توقعات بصدور اعتذار هندي عن هذه التصريحات المسيئة، ناهيك عن كون أقل من أن يكون معالجة متناسبة مع الأثر الذي خلفته تصريحات كهذه في ظل حساسية الرأي العام الإسلامي للموضوع، وخلفيات تكرار مثل هذه الإساءات في مناطق أخرى من العالم، ومايعنيه حدوثها مجدداً من إحتمالية تكرارها مستقبلاً.

واعتقد أن الموقف الرسمي، لا الحزبي، الهندي يرتبط بمدى قدرة رد الفعل الحزبي على إحتواء موجات الغضب العربية والإسلامية، أي أن نيودلهي آثرت تبني نهج متدرج في التعاطي مع هذا الغضب إنطلاقاً من موقف حزبي، وإنتظار مايلي ذلك وفق سياسة الخطوة خطوة، والرغبة في إحتواء الأزمة بأقل كلفة سياسية أو بدون، باعتبار أن تصريحات بعض من وصفهم مسؤولين هنود بـ "عناصر هامشية" لا تمثل وجهة نظر الحكومة الهندية، وهذا صحيح على المستوى الشكلي، أو الظاهري ولكن كان بإمكان الحكومة الهندية إحتواء الغضب بسرعة من خلال تبني موقف رسمي رافض لمثل هذه الإساءات الخطيرة في المطلق أو بشكل عام، لاسيما أنها تنطوي على تأثيرات عميقة تعمق ندوب النسيج الطائفي والاجتماعي الهندي.

من وجهة النظر التحليلية البحتة، وبعيداً عن أي تحيزات عاطفية أو دينية، رغم منطقيتها بالنسبة لي كمسلم يشعر بالغضب والإستياء تجاه مثل هذه التصريحات المرفوضة مهما كانت دوافعها ومبرراتها، فإن إدارة حزب "بهاراتيا جاناتا" لهذه الأزمة قد طغت عليها توجهات الحزب الأيديولوجية وليس مصالح الهند الإستراتيجية العليا، التي كانت تملي على قادة الحزب ضرورة التحرك منذ بدايات الأزمة باتجاه إخماد الفتنة، وإستباق أي غضب متوقع داخلي أو من جانب الدول العربية والإسلامية.

الأرجح أن قيادة الحزب الهندي الحاكم قد آثرت الانتظار وإرجاء مواقفها وربما محاولة الموائمة بين انحيازاتها الحزبية ومصالح البلاد الإستراتيجية، ويبدو أن ردود الأفعال العربية والإسلامية قد فاجئت الساسة الهنود، الذين لم يلاحظوا أن هناك فارقاً بين حرص الدول العربية على عدم التدخل في الشأن الداخلي الهندي والعلاقات بين طوائفها، وبين المساس بمكانة الرسول (صلى الله عليه وسلم) حيث لا يمكن إعتبار الأمر جزءاً من الإستقطاب الديني الداخلي في البلاد.

من قواعد الحكمة التي تنمو فطرياً في أرض الهند، ويزخر بها تاريخها العظيم، لو بادر الساسة الهنود لإخماد هذه الفتنة والسعي لترسيخ أجواء التسامح والتعايش في الداخل والخارج، وتقديم إسناد معنوي مهم للأصدقاء الذي يحرصون على غرس بذور التعايش والتسامح عالمياً، وفي مقدمتهم دولة الإمارات، التي أسست أول معبد هندوسي في أبوظبي عام 2018، في خطوة نوعية ذات دلالات نوعية عميقة، ناهيك عن أن علاقات الهند مع دول مجلس التعاون، ولاسيما الإمارات، تشهد طفرة نوعية كبرى، وهناك أرضية مشتركة تتشكل على صعيد المواقف حيال الأزمات والقضايا الدولية مثل الأزمة الأوكرانية وغيرها.

الخلاصة أن أزمة التصريحات المسيئة للرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) كان يمكن إحتواؤها والسيطرة عليها منذ البدايات للحفاظ على النجاحات السياسية الخارجية التي حققها حزب "بهاراتيا جاناتا"، وتفويت أي فرصة على الأصوات والتيارات المتشددة للنفخ في نار الفتنة وفتح باب المزايدات السياسية، ناهيك عما يصيب صورة الهند وسمعتها جراء مثل هذه التصريحات المسيئة.