لم تعد قضية الأقليات في العالم العربي تثير جديداً، بل وتكاد تختفي عن دائرة النقاش الرسمي والثقافي والإعلامي العربي بالصورة التي كانت تعلو فيها إبان المد القومي بخطاباته القومية في نسختها الثورية. إلا أنها ظلت مستمرة كقضية لها مؤثراتها الإنسانية والتاريخية والسياسية في المحيط العربي. فالأقلية كوجود هامشي داخل منظومة اجتماعية أكبر (الأغلبية)، وهي تكون بحسب تعريف العلوم الاجتماعية أقلية (Minority) وسط تنظيم اجتماعي، تختلف بخصائص الانتماء وكل ما يسود في منظومة الأغلبية. وتختلف الأقلية من حيث التصنيف بين أقلية عرقية ودينية وطائفية ومذهبية وغيرها مما يزخر به التاريخ العربي والجغرافيا العربية منذ أن تمددت رقعتها الدينية وتحولت إلى امبراطورية مترامية الأطراف، وأصابها الضعف ثم الانهيار أمام معادلة التحدي والاستجابة الحضارية كسائر الإمبراطوريات الغاربة. ومن ثم بقي ما أحدثته تلك الامبراطورية في واقع تلك المجتمعات التي تدامجت هوياتها الثقافية وأعرافها التقليدية مع بنية الثقافة الفوقية الوافدة من لغة ودين. وباعتبارها، أي الأقلية، هوية، فإنها تعكس عدداً من الأنماط اللغوية والثقافية والاجتماعية وذلك بوظائفها المختلفة وتحيط بها حزمة من التعريفات المعجمية والاصطلاحية لا تغني عن التعريفات المفاهيمية ببنيتها النظرية الاجتماعية وتجلياتها السياسية وتشعبها المفاهيمي والنظري.

ظل الاقتراب من مسألة الأقلية مثيراً لتوترات لا متناهية في المنطقة العربية يتداخل فيها السياسي والاجتماعي والديني، ووفقًا لنظرية المؤامرة العربية، فإن الأقلية بتعدد تشكلاتها العرقية والدينية والطائفية لها ظلالها الاستشراقية والأجنبية، وتناولها يعني - بالضرورة - السعي بالفتنة وشق صف الأمة على دارج الاتهامات العربية الرائجة. والأقليات أو الجماعات ذات الأصول العرقية غير العربية ومن غير المسلمين في النطاق العربي تشكَّل فضاء سيسيولوجيا بارزاً يؤكد على الحضور التاريخي في التكوين والتطور البنيوي لمركبات المجتمعات العربية. ولما كانت الحالة العربية تتصف بانقساماتها الموروثة، لم يقتصر تعريف الأقلية على الجماعة المختلفة، بل انسحب المفهوم ومضامينه الاصطلاحية بتفسيراته العرقية على كافة التيارات الفكرية والمذهبية، بما يشمل الطوائف الإسلامية بين سنة وشيعة والفرق الناجية منها والهالكة. وظلت الأقلية وقضاياها تتصاعد كلما زاد توغل نظام الدولة العربية في نظام السلطة وطبيعة السياسات الثقافية واللغوية التي تفرضها. ومن جانب آخر، لم تتساكن الأقليات في سياق التعددية الثقافية التي تمنح البلدان طابعها التكويني، وظلت بؤراً مستثارة قابلة للانفجار لا تني عن التذكير بخصوصياتها أو همومها بتعبير عالم الاجتماع السياسي سعد الدين إبراهيم في مؤلفه الموسوعي "الملل والنحل والاعراق: هموم الأقليات في الوطن العربي".

وكانت الأقلية في التاريخ العربي والإسلامي مصدر قلق انتقل بعدها إلى الدولة العربية الحديثة، تلك الدولة التي خرجت عن تنظيم الدولة الغربية (اتفاقية وستفاليا)، أي ما عرف بالدولة القومية في سياقها الغربي. وهذا التوتر التاريخي في العلاقة بين مواطني الدولة أو النحل والأمم في تفسيرها التاريخي أو اهل الذمة في السياق الفقهي قد تعقدت في ظلال الدولة القومية العربية حتى في تلك الدول التي تعد خارج الحيز العربي الجغرافي (الجزيرة العربية). وهذا التكوين الذي أنتجته غزوات الفتح العربي الإسلامي في مصر والشمال الأفريقي والشام حوَّل من ديمغرافية تلك الأقاليم بين سيادة الدين الجديد وموقع السكان الأصليين Indigenous بالوصف الأنثروبولوجي تحت نظام سياسي وعسكري قاهر لا سبيل إلى مقاومته إلا بالخضوع إلى شروط الواقع السياسي والديني الجديدين.

مفهوم العرق مترجماً في الثقافات الإنسانية لم يخل من الذاتية العربية بكل ما تحمل الذات العربية من تفوق واختيار غيبي يمثل ذروة المركزية العرقية Ethnocentrism ويصعب معه الاندماج مع المكونات الاجتماعية. وهذا ما يفسر الثورات الاجتماعية في حواضن الإمبراطوريات والخلافات الإسلامية الأموية والعباسية، باعتباره محاولة للتخلص من الهيمنة العربية كما يرى المستشرق الألماني فلهوزن في كتابه "الدولة العربية". وهذا التفسير يرى في السياق التاريخي بأدوات تحليل ما كثورة الزنج والقرامطة في القرن التاسع الميلادي. واستخدم اليسار العربي أدوات التحليل الماركسي لاستيعابها في سياق الصراع الطبقي دون التفات كافٍ الى العوامل الثقافية المتمثلة في هوية (الأقلية) في مواجهة سلطة أغلبية الدولة. إنَّ الإسهام الفكري والثقافي والديني عادة ما تحيله الذاكرة العربية بهواجسها التاريخية إلى افراد وجماعات لا تنتمي نسباً إلى العرق العربي أو من الذين يعرفهم المعجم الاجتماعي التاريخي بالموالي أو العجم من لغويين ونحاة (سيبويه) ومفسرين (الطبري) وفلاسفة ومناطقة وعلماء، وشعراء يشكلون آخر ما تنافح به الحضارة العربية في ماضيها البعيد في مواجهة تحدي حضاري غربي طاغ لا تكاد تملك من أدواته إلا الاستعارات التاريخية.

المنطق نفسه يفسر إلى حدٍ ما ما واجهته الدول العربية الوليدة (دولة ما بعد الاستعمار) مع مسألة الأقليات في حدود تعريف الدولة العربية الحديثة ولم تفلح محاولات النظم العربية الثورية منها والاشتراكية في امتصاص (الأقلية) في الخطاب القومي الذي تبنت طرحه بشعاراته الصارخة. وعمدت إلى انتهاج خطاب تبريري لا يخلو من انتهازية تاريخية غير مبررة باعتبار أن الأقليات غير العربية جماعات عربية أصيلة وإن ما يجمعها - وفق الخطاب القومي - رابطة اللغة كرابطة وبوتقة تنصهر فيها كل الجماعات (الأقليات) بأصولها العرقية والثقافية المختلفة. وتفاوتت تفسيرات هذا الاندماج القسري بين بلد وآخر وأقلية وأخرى. ففي بلدان تبرز فيها الأقليات الدينية بحجمها السكاني وعمقها التاريخي (أقباط مصر) أو العرقية (أمازيغ شمال أفريقيا) أو اللغوية (السودان) لم تختف فيها المؤثرات الثقافية والسياسية. ومن المفارقات أن وجود هذه القوميات ضمن مركبات الدولة القومية في نسيجها الاجتماعي ومع احتكار الدولة اثنياً في بعض البلدان (السودان) أحال الأقلية إلى خانة الأغلبية المهمشة.

إقرأ أيضاً: هل يستحق الكردي الموت؟

ومن أبرز ما حاولت به الدول العربية تضمين دساتيرها لمادتين من اعتبار اللغة السائدة (العربية) لغة الدولة والدين الإسلامي مصدر التشريعات مما عمق من أزمة الأقليات وفاقم من إحساسها بظلاماتها التاريخية، ولو أن تدوين اللغة أو اللهجة الأقلية قد ساد مؤخراً في الجزائر والمغرب. أما دينياً، من حيث واقع السلطات القضائية في هياكل الدولة ذات السلطات المستقلة دون تحيز ديني أو طائفي؛ فلا توجد دولة عربية تطبق الشريعة على نحو ما تتشدد وتدعو اليه جماعات الإسلام السياسي. فأحكام الشريعة - كما في تصورها خطاب الإسلام السياسي - بنسختها السلفية تضع الأقليات في موضع لم يعد مستساغاً في عالم اليوم، إذ أن مواطني الدرجة الثانية والتفرقة على أساس الدين والعرق واللغة يتعارض مع كل ما نصت عليه مواثيق حقوق الإنسان ووقعت عليه الدول الإسلامية بخلفياتها الاجتماعية المحافظة معترفة بحقائق في عالم باتت تتأسس نظم علاقاته على التوافق أخذاً بمنجزات الحداثة المادية والثقافية. ولعل النموذج الداعشي في التعامل مع الأقليات على النحو الذي عوملت به جماعة الايزيدين في العراق من سبي للنساء ضمن غنائم الحرب وغيرها من أعمال بربرية مبررة على تفسير ديني لا تؤيده أغلب جماعات الإسلام السياسي إلا تقية.

فاجتهادات جماعات شعار (الإسلام دين ودولة) لم توفق في إخراج موقف حاسم بشأن الأقليات داخل الدولة الإسلامية الغائبة أو الأمة المتخيلة بتعبير أستاذ العلوم السياسية بندكت أندرسون أو الدولة المستحيلة بتعبير الباحث وائل حلاج. فتراوحت التخريجات بين ضمان حقوقهم كما كفلها الإسلام ونموذجها في ذلك الجماعات التي عاشت في كنف الحضارة الإسلامية من يهود ومسيحين وأهل كتاب وغيرهم من عرقيات وجماعات لها معتقداتها الطقوسية. وكفالة الحقوق بالمعنى التاريخي والديني لا يصمد قانونياً في سياق بنية الدولة الحديثة. ففي بلد كالسودان حيث نجح تيار الإسلام السياسي في فرض برامجه عند استيلائه على السلطة لثلاثة عقود، كانت النتيجة المباشرة انفصالاً حاداً بين مكونات شعبه انتهى إلى انفصال جزئه الجنوبي على أسس عرقية وثقافية ودينية. لم يستوعب السودان التنوع الذي ربما عده من معوقات تنفيذ مشروعه في بناء فسطاط خالص لمواطنيه من المؤمنين.

إقرأ أيضاً: ماذا ينتظر المجتمع الدولي بعد اعترافات الحرس ومحاكمة نوري؟

والشاهد أنَّ مسألة الأقليات لها جانبها العالمي في دول عدة بما فيها الغرب، حيث تكاثر الهجرات وما خلقه ذلك من واقع لم تفلح معه سياسات الاندماج في دول بدساتيرها العلمانية. ولكن تظل مشكلة ثقافية وإن تقل عن الأقلية في السياق العربي لتداخلاتها التاريخية والدينية والاجتماعية. ففي النطاق العربي لم تنشأ الأقليات عن تدخل خارجي كالهجرة مثلاً، بل شكلها بقاؤها الوجودي الذي ربما كان أسبق من وجود الجماعات العربية المهاجرة. ومع اتساع قضية المهاجرين، برزت مشكلة الأقليات التي بينها الجماعات التي أصبحت بدورها أقليات في بلدان الغرب تعاني في ضوء تصاعد التيارات اليمينية من مخاطر ثقافية متحيزة تدعمها مخاوف الاسلاموفوبيا التي غدت المهدد الأكبر لما ظنه الغرب لمنجزاته الديمقراطية بطابعها الليبرالي الذي يؤمن بحرية الفرد وما يعنيه من حرية المعتقد.

إقرأ أيضاً: طوفان الأقصى أم طوفان سليماني؟

إنَّ من أسباب فشل مشروع الوحدة العربية في طرحها القومي عدم أخذه بمسألة الأقليات والجماعات المهمشة على صعيد التكوين المؤسس لهوية الدولة، فاعتبرها مسألة دون أولوياته الأيدولوجية والسياسية. ولكن ما غشى العالم العربي من تحديات عسكرية وسياسية مؤخراً برزت جماعات (أقليات) في عدد من بلدانه تنزع إلى الاستقلال بما يتجاوز حدود الحكم الذاتي تبعاً لخصوصيات ثقافية واجتماعية. ولأنها تقيم جغرافيا على حدود ممتدة إلى دولة ضمن هوية عرقية أكبر، سيسهل تنفيذ سياسات انفصال تخشاه الأنظمة السياسية.