لعل هناك سؤال جوهري ومهم للغاية يطرح نفسه بقوة، ألا هو: "هل الضربات الأميركية المتتالية للحشد الشعبي وفصائل المقاومة في العراق وسوريا واليمن، كفيلة بوضع حد للهجمات التي تتعرض لها القوات الأميركية في المنطقة، وبالتالي يمكن للولايات المتحدة الأميركية أن تستعيد هيبتها وتضع حداً للتهديدات الكبيرة والخطيرة لقواتها ومصالحها في المنطقة؟".
كلما ارتفعت وتيرة استهداف القوات الأميركية، وتصاعدت معها الضربات الأميركية، تكرر طرح السؤال المذكور بقوة وزخم أكبر، وسلسلة الضربات الأميركية الأخيرة التي استهدفت مواقع عراقية وسورية ويمنية، ليلة الثالث من شهر شباط (فبراير) الجاري، ومواقع يمنية فيما بعد، مثال ومصداق على ذلك، لا سيَّما أنها، بحسب البيت الأبيض، جاءت رداً على تعرض إحدى القواعد العسكرية الأميركية في الأردن الأسبوع الماضي لهجوم غير مسبوق أسفر عن مقتل ثلاثة جنود أميركان وإصابة العشرات.
إقرأ أيضاً: العشوائيات الديمقراطية
من يدقق ملياً في مجمل التعاطي الأميركي مع ضربات المقاومة وسياقات تتابع الوقائع والأحداث في المنطقة، خصوصاً بعد اندلاع معركة "طوفان الاقصى" في السابع من شهر تشرين الاول (أكتوبر) الماضي. لا بد له أن يسجل حزمة ملاحظات يمكن بمجموعها أن ترسم وتصيغ صورة الاضطراب والتخبط الأميركي، أكثر مما تعكس رصانة وتماسك وحزم القوة العالمية الأكبر!
ومن بين هذه الملاحظات:
أولاً: العجز الأميركي الكامل والفاضح عن ردع فصائل المقاومة، ومنعها من تكرار هجماتها على القواعد العسكرية في العراق وسوريا، وبالرغم من تأكيداتها ومزاعمها المتكررة - أي الولايات المتحدة - أن ردها سيكون قوياً وقاصماً. والملفت أنها بعد كل ضربة تنفذها، تواجه بضربات تجعلها أكثر ارتباكاً وتخبطاً واضطراباً.
إقرأ أيضاً: استراتيجية نظام الولي الفقيه بين أزمة غزة والأزمات الداخلية
ثانياً: يبرز التخبط والارتباك الأميركي من خلال الاستخدام الفوضوي وغير المدروس ولا المنظم للأوات الدبلوماسية - السياسية والعسكرية، بحيث أنها في ذات الوقت الذي تستخدم أدواتها ووسائلها العسكرية، تقول إنها ذاهبة باتجاه التفاوض السياسي مع الحكومة العراقية لحسم مصير وجودها العسكري في العراق.
ثالثاً: أفرز التعاطي الأميركي مع الوضع العراقي - لاسيما هجمات فصائل المقاومة - انقسامات سياسية حادة وخطيرة في داخل المنظومة السياسية الأميركية، بحيث أنَّ بايدن الديمقراطي لم يتلق الصفعات من الحزب الجمهوري فقط، وإنما راحت الصفعات تتوالى عليه من الحزب الديمقراطي أيضاً، حتى أن فرصه المحدودة والقليلة للحصول على ولاية رئاسية ثانية، راحت تتبدد وتتلاشى بوضوح، خصوصاً مع ضعف أدائه وتراجع وضعه الصحي بسبب تقدم العمر، والتردد والتخبط والتناقض في قراراته وإجراءاته.
إقرأ أيضاً: العراق والمشي على حبل مشدود
رابعاً: في الوقت الذي تكرر الإدارة الأميركية اتهاماتها لإيران بالوقوف وراء الهجمات التي تتعرض لها قواعدها العسكرية في سوريا والعراق، وسفنها في البحر الأحمر، فإنها تكرر تأكيداتها بعدم نيتها شن أي هجوم على إيران، وهو ما يعكس ضعفها وخشيتها من تبعات أي خطوة تصعيدية مباشرة ضد الأخيرة. ناهيك عن أن أوساط ومحافل سياسية مطلعة، تؤكد أن واشنطن تسعى جاهدة إلى احتواء التأزم مع طهران بأقل قدر من الخسائر.
خامساً: بما أنَّ المشهد الإقليمي العام متداخل ومتشابك، فإن الولايات المتحدة الأميركية لا يمكنها فصل تعاطيها مع ما تتعرض له في العراق وسوريا عن الأوضاع في فلسطين المحتلة، والمأزق الكبير الذي يعيشه الكيان الصهيوني هناك بعد أربعة شهور من معركة "طوفان الاقصى"، وتعدد الجبهات عليه، من فلسطين نفسها، ومن لبنان ومن اليمن وكذلك العراق. فلو افترضنا أنَّ واشنطن نجحت في تحييد الفصائل العراقية بطريقة ما، فإنها لن تتمكن بالضرورة من فعل نفس الشيء مع الميادين الأخرى، مع حقيقة تعدد الجبهات ووحدة الساحات.
إقرأ أيضاً: إلى أين يتجه إقليم كوردستان؟
سادساً: على ضوء سياقات الوقائع والأحداث، وتقييم المواقف والتوجهات، فإن من السذاجة بمكان، تصور وافتراض أنَّ الهجمات الأميركية والبريطانية الأخيرة على مقرات الحشد الشعبي وفصائل المقاومة في العراق وسوريا، وحركة أنصار الله في اليمن، ستجعل أطراف محور المقاومة تتراجع وتستسلم وترفع الراية البيضاء، لأنه لو كان الأمر كذلك، لحصل هذا من قبل وانتهى كل شيء. بل إن الواقع يقول إن على واشنطن ولندن والقوى التي أيدت وساندت ودعمت بشكل أو بآخر تلك الهجمات، أن تتحسب وتتهيأ لهجمات وضربات قاصمة، يكون وقعها وأثرها وتأثيرها أكبر بكثير من الهجمات التي طالت قاعدة التنف على الحدود السورية - الأردنية، في التاسع والعشرين من شهر كانون الثاني (يناير) الماضي.
سابعاً: يوماً بعد آخر، تتسع مساحات الرفض الدولي للسياسات الأميركية، لا سيما من قبل قوى كبيرة ومؤثرة ونافذة، وهو ما يعني مزيداً من التخبط والاضطراب الأميركي، واتجاهاً نحو المزيد من العزلة والانقسامات الداخلية، والتصدع السياسي والمجتمعي. وبالتالي، تفاقم المشاكل والأزمات، وازدياد مستويات العجز عن إيجاد الحلول لها، ناهيك عن الفشل والإخفاق في فرض وتطبيق الحلول المطروحة على أرض الواقع.
إقرأ أيضاً: استراتيجية نظام الولي الفقيه بين أزمة غزة والأزمات الداخلية
وارتباطاً بكل ذلك، وعلى ضوء المؤشرات والمعطيات الواردة، فإنه لا خيار أمام الولايات المتحدة الأميركية إلا حزم حقائبها والانسحاب من العراق. ليس هذا فحسب، بل إن عليها أن توقف دعمها واسنادها للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وأن تقرأ الواقع بصورة أكثر حكمة، وتتصرف بعقلانية لا بتهور وانفعال، لأنه لا باغتيال شخص أو شخصين أو حتى عشرة أو مئة، سواء أكانوا قادة أو عناصر عادية، يمكن أن تستتب الأمور لواشنطن، وعلى ساسة البيت الأبيض أن يتنبهوا إلى ما أوصلهم اغتيال أبو مهدي المهندس وقاسم سليماني قبل أربعة أعوام.
خلاصة القول، إن ما تفعله الولايات المتحدة لا يتعدى كونه هروباً إلى الامام، ذلك الهروب الذي قد يفضي لاحقاً إلى الانهزام والانهيار.
التعليقات