إنّ الترجمة تعني انتقال النص بالحركة اللغوية شكلًا ومضمونًا إلى بنية لغوية أخرى (منقول إليها) مع الإبقاء - قدر الإمكان- على مؤداه النحوي، وإلى حدٍ ما البلاغي، وكل ما يفيد إيضاحاً للمعنى والمحافظة على محتواه الزمني والشكلي. فبداهة القاعدة النحوية في اللغة لا بد أن تحدث تأثيرها في النص المترجم الذي من خلاله يحدد مستوى الترجمة اتقانًا وأداء لغويًا تتكامل تشكلاتها اللغوية مجتمعة في الجملة المركبة المفيدة.

تنطوي كل اللغات على صيغ زمنية وتقيدات صرفية تنبئ عن وقوع زمن الفعل في اللغة المنطوقة والمكتوبة على السواء، بما يمثل سياق المعنى، وبالتالي التلقي في سياق نقل المفهوم والتصور والحدث. وتعد منظومة اللغة النحوية من أرسخ مكونات اللغة البنيوية التي لا تقبل الإخلال بقواعدها، وإلا تقوضت المعاني تبعاً لذلك واضطربت المفاهيم. فأدوات النحو في تقسيماتها القاعدية وحركتها بما هو مفسر في صياغة الجملة لا يعني إلا تطورًا لغويًا اقتضه تعقيدات حضارية، وتحولاً علمياً وترامياً معرفياً أكثر تنظيمًا بما يقابل اتساع المجال الفكري والفلسفي والديني والأدبي للغة.

وما بين مكونات اللغة التركيبة من مفردات وحروف والألفاظ التي يربط بينها النحو ويحكم حركتها (الحكم النحوي)، أي يشكل المنطق العملي الذي يمنح الكلام والكتابة ما يعرف التماسك في السياق اللغوي من حيث اللغة والمعنى. وتعمل هذه القاعدة وفق معايير تنبثق عن عناصر اللغة من كلمة وحرف وفعل واسم، بما يعني أنَّ مستويات اللغة تتحدد من الاستخدام النحوي السليم بما يفيد الجملة والعبارة ويجعلها تتميز وترتقي باللغة المستخدمة. ويضاف إلى ذلك أن أثر النحو على اللغة هو أثر متعدد الوجوه من استنتاج وبناء وأحكام في النمط اللفظي والنصي والعددي للغة، تلزمه تغيرات وفقًا لحركة الأداة النحوية (حركات الإعراب) في العربية. وينتهي النحو إلى تعريفه النظري في علم اللغويات بأنه يقوم على بنية وتصور تركيبي للجملة Syntax في دلالتها المورفولوجية بما يتوافق والتحليل المنطقي لمعاني اللغة.

وبما أنَّ اللغات ظاهرة إنسانية، لا بدَّ أن يكون لها نظامها في نطاقها الأبستمولوجي الشامل، إضافة إلى بعد انطولوجي لا يستثني لغة دون أخرى، وقاد هذا الاعتقاد إلى نظرية النحو العالمي بناء على المتشابهات بين اللغات على ضوء نظريات علم اللغة، ولو أنَّ هذه الفرضية الكلاسيكية في علم اللغويات اعتمدت على فطرية اللغة بين كل اللغات. لكنَّ الراجح أنَّ الظاهرة اللغوية هي ظاهرة إنسانية فيما يذهب اليه صاحب النحو التوليدي Generative Grammar نعوم تشومسكي، على افتراض غريزية اللغة الإنسانية. ويجد هذا التفسير في بعد ميتافيزيقي آخر يعود إلى أصل النشوء البشري والخلق، وإن لم يؤخذ به – غربيًا - في تفسير نشأة اللغة. وبهذا النحو تجذَّر واستقر بقواعده في اللغة ثابتًا في أحكامه مهيمنًا على حركة اللغة دون مسَّاس أو تغير، وإن تغيرت دلالات الألفاظ ومعانيها. هذا ما قاربته نظرية اللغة التقليدية والحديثة من مهمة النحو في تحرير النص من معايب لغوية تخل بسلامة اللغة.

فالإشكال والتحدي المستمر الذي عادة ما يواجه المترجم يعد في بعض وجوهه إشكالًا نحويًا يؤثر على النص المنفذ ترجمة من بين إشكالات وصعوبات عدة تزخر بها (أخطاء الترجمة) النصوص المترجمة. فالترجمة لا تتقوم بمتقابلات المفردات وحسب على نحو ما توفره المعاجم ثنائية اللغة، ولكن بما تفسره أدوات وفق القاعدة اللغوية الصرفية (النحو) بين اللغتين. ولما كان لكل لغة طريقتها في تحليل الجملة واختلاف الأدوات النحوية من صفات وأسماء وحالات الكلمات، ولكنها تشترك في زمن الفعل في تقسيماته الزمنية المعروفة عالميًا أيضًا زمن وقوعه (ماضي، حاضر، مستقبل) وما يشتق لاحقًا من تسلسل قاعدي يبين موقعه بين الاستخدام والتعبير في الجملة.

إقرأ أيضاً: علمانية الثقافة العربية

ومما تعمد الترجمة في محاولاتها لنقل النص مستخدمًا مسارات وطرائق لغوية مختلفة، ومنها مفهوم التأويل، في إعادة صياغة النص الذي يتيح مساحة تمكن عملية الترجمة من تجاوز عقبات يخشى أن تنتج نصًا مغايرًا. وتكون حدود مثل هذا التأويل بما يحد من التقول على النصوص وتحميلها بأكثر مما تحتمل، فالتأويل هو استعادة مستمرة لنسق الفكر مبنياً على التقابل اللغوي، فإذا كان التأويل هو علم التفسير الذي يختلف بدوره عن التفسير أو الإيضاح بحسب التعريفات المعجمية القاصرة على إيضاح المفردة اصطلاحًا وتأصيلاً وتقصيًا لتطورها التاريخي، وهذا التطور التاريخي هو ما رحّل التأويل من مجال تأويل النصوص الدينية إلى حقل الدراسات اللسانية والتطبيقية في مجالي الأدب واللغة. وأعطى هذه الأداة "التأويل" بما وفق بين الترجمة واللغة باستخدام منطقي النحو والصرف في الربطَّ بين القاعدة النحوية وآفاق اللغة المنفتحة على مجالات معرفية واسعة.

إقرأ أيضاً: انهيار الغرب بين الخرافة والحقيقة

وتعالج الترجمة النحو بما يتضمن حركته في سياق الجملة دون أن تنقل تفاعلاته في لغته الأصل، ولكنها تحافظ على مؤداه الوظيفي وما ينتجه من جمل وعبارات تقع في دائرة زمنية محددة تعرف بالفعل وما يحدثه فيما يلي الجملة من تغيير بما يحقق الغرض من الكلام. وبما أن الترجمة تستقصي روح النص بقدر معالجة لغوية مقاربة لروح النص المترجم؛ لكنها لا تتجاوز القاعدة النحوية المتولدة عن النص الصادر عن مسوغه التركيبي اللفظي والدلالي في نص اللغتين. فالنحو بنسقه النظمي الشامل تركيبًا وصرفًا، والترجمة ووظيفتها ناقل وسيط Trans يتصلان بالمقاربة اللغوية في دائرة اللغة بكل كفايتها ووظائفها وتفسيراتها ونظرياتها العلمية في علم اللغة. والترجمة في سياق إخضاعها للنص اللغوي ومكوناته تعمد إلى ترحيله إلى فضاء لغوي آخر يحتمل بالأدوات النحوية أن ينجز مهمة الكشف عن نص متكامل العناصر التي تحقق الغرض منها. ولأن الترجمة لا تقف عند مقابلاتها Collocations الثنائية يلزمها الإضافات النحوية بما يشكل بنية صرفية تأخذ بالمستويات الصوتية (الفنولوجيا) والشكلية والبنيوية للألفاظ (المورفولوجيا) والعلامات اللغوية (الدلالات) للمطابقة والاتساق اللغوي أي نظم الجملة.

إقرأ أيضاً: جدلية النص السردي والفكر الصوفي

إنَّ حدود كونية اللغة لا تقف عند علم اللغة المقارن Comparative Linguistics كعلم يقوم على التشابهات والاختلافات على نحو ما أنجزته الدراسات الألسنية في المجال البنيوي لدراسة علم اللغة. ثمة تطور آخر توظفه الترجمة في تطبيقاتها كالنحو المقارن، وما يضفيه من وظيفة علائق اللغات على المستوى النحوي. وإذا كانت اللغات تنبثق عن مصادر تتشابه وتتابين بوصفها منتجًا بشريًا، فإنَّ النحو باعتباره منظومة علمية قاعدية للغة تتفرع منها حزمة أدوات تضبط المعني بما في كل اللغات على اختلاف خلفياتها التأريخية والثقافية. وزادت الحاجة لتطوير النحوي في دراسة نظام الكتابة بما ابتدعته النظرية اللغوية في علم دراسة النحو أو الكتابة Grammatology بمفهوم الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا بما تحمله اللغة من تصورات إنسانية وأنطولوجية مضمونها الرموز والعلامات اللغوية على غير اللغة السائدة.

تظلُّ إشكالات الترجمة العربية ليس على ما يثار في المناقشات الأكاديمية والثقافية العامة من قصور يشوبها على مستوى تنفيذها ومنتجها في الفضاء الثقافي العربي. وإذا كانت الترجمة قد ارتبطت تاريخيًا وعلميًا بأزهى التفاعلات الحضارية بما حققته من منجزات فلسفية وعلمية في عهدها البعيد في الدولة العباسية، فإنها عانت مما أحاط بالثقافة العربية والدينية في عصورها التالية. فمن داخل أنساقها اللغوية أشادت العربية صرحًا نحويًا شكل حدًا منعيًا في استخداماته الشعرية والدينية. ولأن التفاعل بين النحو العربي منذ أن تأسس على يد النحاة العرب كان قياسه النص اللغوي المقدس (القرآن الكريم) مما ثبت من قواعده ووسعه من نطاقاته المتشعبة في القراءات والتفسير والفقه. فأنتج النحو العربي الإعراب الذي يعني بحركة الكلمات وما تعنيه تبعًا لحركتها الإعرابية. ولكن كيف تفاعل هذا الإنتاج التراثي النحوي للعربية ترجميًا مع اللغات الأخرى بما أن أدواته ظلت ثابتة. وبالرغم من أنَّ للبعد التاريخي أهميته في تاريخ الترجمة في محيطها العربي، إلا أنها افتقدت للتعريف المعجمي التاريخي في المعاجم العربية وأضحت تعريفًا غير مانع، وإن امتدت مساحة تفسيره على قاعدة الصرف النحوي في مجمل خطابها التداولي في المسارد اللغوية التراثية.

إقرأ أيضاً: اللغة العربية: الفروق اللُّغوية والفجوات الحضارية

واللافت أنَّ الاعتماد مؤخرًا على الترجمة الآلية التي وفرتها تقانة المعلومات بآلية النصوص المتعالقة بين لغات العالم بقدر ما وفرت الوقت وسرعة الإنجاز إلا أنها في تعارضها مع اللغة البشرية المعالجة آليًا على مستوى الإدراك اللغوي. إذ أن النصوص اللغوية - المنتجة آليًا - تعمل على بيانات مختزنة وفق تصنيفات بيانية محددة تتعامل دون تدخل بشري مستخدمة تقنيات الذكاء الصناعي. ولما كانت اللغات تختلف في تركيب الكلمات وترابطها وفق تسلسل منطقي (نحوي) كثيرًا ما يتعذر المعنى المراد دون تدخل بشري مما يجعلها أداة آلية في طور النمو ضمن أساليب الترجمة مستقبلاً. ولكن على فرض الاستخدام الحالي بين طائفة من المترجمين تكون أداة غير موثوقة كثيرًا ما تنتج نصوصًا ركيكة Mistranslation الترجمة تحتاج إلى تدقيق.

وما يجمع بين الترجمة والنحو من أسس لغوية مشتركة إذا ما كانت تتصل بالمشتركات اللغوية في اللغات أو قياسًا على وحدات وتراكيب صرفية تشتق أهميتها من أهمية التفاعل الذي تحدثه اللغة من حيث بنيتها الدلالية، تجعل من دقة النص اللغوي في بيانه الذي تتوخاه الترجمة معتمدة على سلامة استخدام وتوظيف نظام النحو على نحو يرتقي بالنص في آفاقه التعبيرية. وحيثما أتقنت القواعد اللغوية (النحو) كانت عملية الترجمة عملية تفصح بما ينطوي عليه النص اللغوي من جماليات بلاغية.