لم نسمع يوماً رئيس وزراء بلد متحضر خاطب الحضور في مؤتمر أو ملتقى دولي بأنه صاحب الفضل في تحقيق الديمقراطية في بلده، كما لم نسمع ملكاً في بلد غربي قال بفضل آبائه وأجداده في بناء دولته، فمثل هذه الخطابات الديماغوجية لا تأتي إلا من حكام فاشلين كحكامنا، ومن زعماء مثل زعمائنا، يعاني معظمهم من مرض نفسي يدعى "الشعور بالنقص"؛ فالناجحون يعملون بصمت، أما الفاشلون فيثيرون الضجيج والصخب حولهم لإيهام الناس بأنهم قادة أفذاذ لم تنجب أمم العالم أمثالهم.

من عادة الحكام الفاشلين تكريس أموال الدولة للدعاية وخداع الجماهير عبر استغلال أجهزة الدولة أو من خلال شراء ذمم بعض السياسيين والمستشارين وأصحاب الأقلام الرخيصة للترويج لمثل هذه الخطابات بهدف إخفاء فشلهم في تحقيق أي منجز حقيقي للبناء والتقدم بالدولة. وبما أنَّ لعنة الجغرافيا جعلتنا نحن شعب كردستان جزءاً من هذه المنطقة الموبوءة بآفة الدكتاتورية، فمن الطبيعي أن يظهر بيننا من يحاول أن يقلد مثل هؤلاء الحكام الفاشلين.

في خبر ورد بوسائل الإعلام المحلية كشف نائب كردي معارض "أنَّ حكومة الإقليم عينت مستشاراً لها في أميركا براتب شهري قدره 26 ألف دولار، من دون أن يعرف أحد ما المهمة التي يقوم بها هذا المستشار الأميركي وما يمكن أن يقدمه لشعب كردستان. وطبعاً هذا غيض من فيض الأموال الهائلة التي يهدرها حكام إقليم كردستان لاستقطاب بعض الشخصيات الدولية، وخصوصاً سياسيين وجنرالات متقاعدين، سبق لمعظمهم أن عملوا في العراق خلال الفترات السابقة.

وفي السياق ذاته، وفي آخر مشاركة لرئيس حكومة إقليم كردستان السيد مسرور بارزاني بقمة الحكومات المنعقدة في دبي، ألقى خطاباً في هذا المؤتمر أشار في جزء منه إلى "أنَّ حكومة الاقليم بنت خلال السنوات العشرين الماضية اقتصاداً متيناً حقق تقدماً وازدهاراً في شتى مجالات الحياة بكردستان". ولم ينس سيادته أن يصف كالعادة إقليم كردستان بأنه واحة ديمقراطية تتمتع باستقرار سياسي لا وجود له حتى في الدول الاسكندنافية! ولكنَّ حقيقة الأوضاع التي نعيشها في كردستان تخالف تماماً ما أشار إليه سيادته.

فمنذ عام 2014، تعاني حكومة الإقليم أزمة مالية خانقة إلى حد باتت عاجزة تماماً عن دفع رواتب موظفيها، ما دفعها خلال السنوات المنصرمة إلى استقطاع غير قانوني لجزء كبير من تلك الرواتب تحت مسمى "الادخار القسري"، وكذلك وقف صرف الرواتب لعدة أشهر بالكامل. وجدير بالذكر أنه للشهر الرابع على التوالي تتواصل المظاهرات الشعبية من قبل المعلمين احتجاجاً على تأخر دفع رواتبهم الشهرية.

ومن جانب آخر، بلغت الديون المتراكمة على الإقليم حسب التقديرات الصحفية حدود 34 مليار دولار، تترتب عليها فوائد كبيرة تدفعها الحكومة من ميزانية الدولة، فضلاً عن عشرات المليارات الأخرى التي استقطعت من رواتب الموظفين لسد عجز ميزانية الحكومة خلال السنوات الماضية.

إقرأ أيضاً: عاصمة كردستان بلا كهرباء!

وعلى صعيد الطاقة، فإنَّ حكومة الإقليم تنتج حسب بيانات وزارة الكهرباء الكردية بحدود 3700 ميغاواط من الكهرباء عبر محطات التوليد، لكنها تبيع نسبة 40 بالمئة من هذا الإنتاج لمحافظات خارج الإقليم (كركوك والموصل)، من دون أن تبالي بالأزمة الحادة في تجهيز الكهرباء لبيوت المواطنين، والذي وصل في الأشهر الأخيرة إلى أدنى مستوياته، بحيث تتراوح ساعات التجهيز اليومية بين 6 و7 ساعات فقط، فيما يتم تغطية بقية ساعات اليوم عبر المولدات الأهلية والتي تكلف مبالغ طائلة تستنزف جيوب المواطنين وتتسبب بتلويث بيئة المدن الكردية بما فيها العاصمة، حيث فشلت حكومة الإقليم في معالجة مشكلة الكهرباء المستمرة منذ أكثر من ثلاثين عاماً، بالرغم من تدفق مئات المليارات من الدولارات عليها خلال السنوات العشرين الماضية.

وفي الوقت الذي يشير فيه رئيس حكومة الإقليم إلى متانة وقوة اقتصاد الإقليم، يتناسى أنَّ حكومته تقترض شهرياً مبلغاً قدره 700 مليار دينار من بغداد لتمكينها من دفع رواتب موظفيها ومتقاعديها، ومن دون تلك الأموال فإنها عاجزة تماماً عن دفع ولو ربع الرواتب الشهرية.

إقرأ أيضاً: حرية الرأي في كردستان العراق

أمَّا القطاعات الحيوية الأخرى مثل الصحة والتعليم، فإنَّ أوضاعها كارثية بكل المقاييس؛ فالمستشفيات والجامعات الأهلية تفترس المواطنين والأدوية مفقودة في مستشفيات الحكومة والمستلزمات الطبية غائبة بسبب الاهمال المتعمد للقطاع الصحي. أما خدمات البنية التحتية، فهي بدورها سيئة، ولا تمر سنة من دون حدوث فيضانات وسيول وطفح المجاري بعاصمة الإقليم بسبب تخلف البنية التحتية للمجاري وتصريف المياه. هذا فضلاً عن عجز حكومة الإقليم من تعيين خريجي المعاهد والجامعات منذ أكثر من خمس سنوات بسبب إمتلاء دوائر الحكومة بمئات الآلاف من الموظفين الوهميين المحسوبين على أحزاب السلطة.

كل هذه الأمور قد تكون خافية على المؤتمرين في دبي أو أي مؤتمر دولي أو إقليمي آخر بسبب التعتيم الإعلامي على حقيقة ما يجري بإقليم كردستان، أو بسبب ما تروجه الأقلام الرخيصة من أكاذيب لتجميل صورة حكام كردستان.

وفي الحقيقة، نحن مواطنو كردستان لا نعرف جدوى مشاركة رئيس الإقليم في مؤتمر الأمن والتعاون الدولي في ميونيخ، ومشاركة رئيس الحكومة في قمة الحكومات بدبي، وما الدور الذي يمكن أن يقوم به إقليم كردستان الذي تتسول حكومته رواتب موظفيها من بغداد.

إقرأ أيضاً: وضع العراق وكردستان بعد الانسحاب الأميركي

يبقى القول إنَّ ترويج مثل هذه الخطابات الديماغوجية في المحافل الدولية لن يغير شيئاً من واقع الحال بكردستان، وأن التغني بأمجاد ومكاسب زائفة لن يحقق لا استقراراً سياسياً ولا اقتصاداً متطوراً يلبي طموحات الشعب الكردي.

والمصيبة الكبرى أنه في ظل الفشل التام للسياسة الاقتصادية والإدارية لحكومة إقليم كردستان، تجد هناك من يمجد هذه الحكومة بل وينظم القصائد والأناشيد الوطنية لتبجيل ليس قادة هذا الإقليم فحسب، بل التغني بأبنائهم وأحفادهم وتعليق صور وجداريات لهم بشوارع المدن كما كان عليه الحال مع النظام الدكتاتوري السابق.