المعروف أن الديمقراطية هي حكم الأغلبية، لكنَّ الحقيقة أنها حكم الأقلية. وإذا صحَّ أن نجاح المرشح يعتمد على أصوات أغلبية الناخبين، لكننا نرى دائماً أن المرشح ينتمي أساساً إلى الأقلية، والمقصود بها الأقلية التي تقود المجتمع من رجال أعمال وأكاديميين وسياسين وغيرهم، والفائز دائماً من الأقلية المجتمعية التي تستطيع إقناع الأغلبية الناخبة.

في كل ديمقراطيات العالم، يأتي المرشح من أقلية تنتخبه أغلبية، إذ هي أداة لتنفيذ رغبات الأقلية. الأغلبية هي الطبقات غير المتعلمة، هي الطبقات المسحوقة، هي الطبقات التي يمكن خداعها عن طريق الوعود والعواطف من خلال الوسائل الإعلامية التابعة للأقلية. رجال المال والإعلام والعلماء والمثقفون والاكاديمون والسياسون والوجهاء هم الأقلية، وبالنتيجة، هم من يقودون الدولة؛ هذه حقيقة الديمقراطية.

لكن الفرق بين ديمقراطية الدول المتقدمة وديمقراطية الدول المتخلفة، أنَّ مرشحي الأولى من الطبقات الاجتماعية المميزة التي يهمها سمعة البلد ومستقبل البلد، لذا فالمرشح في الدول المتقدمة يلتزم بالوعود التي يقطعها للأغلبية، وينزل عند رغباتها بعد الفوز. أما في الدول المتخلفة، فإن المرشحين من طبقة الأقلية الثالثة، والمقصود بها طبقة اللصوص والمجرمين والعملاء والدجالين، والمرشح الفائز من هؤلاء يظل يقطع الوعود حتى نهاية حكمه، ويبرر تنصله من تنفيذ وعوده بأن أعداءه عرقلوا عمله، أو يتهم جهة خفية بنظرية المؤامرة، ثم يبدأ حملة انتخابية جديدة بنفس الوعود، ويقنع الناخبين من جديد بوعوده الفارغة، ويستمر الحال وتبقى الدولة تعيش الفساد، لأن من يستطيع إقناع الأغلبية بآرائه هو المتحايل المخادع الذي يعرف من أين تؤكل الشاة، فهو ذئب بلباس آدمي.

إقرأ أيضاً: العبودية صناعة متقنة

وكلما كان المجتمع أكثر تخلفاً، كان المرشح الناجح الأكثر سوءاً والأوسع حيلة؛ هذه تجربة عاشتها المجتمعات المتخلفة في معظم بقاع الأرض. لذلك، لا نستغرب أن الدول التي تعيش التخلف ومارست نظام الحكم الديمقراطي أصبح وضعها أكثر سوءاً، وتزداد درجة السوء عندما يحشر الدين ورجال الدين في هذه الممارسة الانتخابية.

من طبيعة الأغلبية في كل مجتمعات الدنيا أنها تنظر للأقوال ولا تنظر للأفعال، وتتأثر بقوة الإلقاء والخطب الرنانة، وشخصية المتحدث، وأحياناً دموعه، ولنا في المثل الهندي تعريف لعقلية الأغلبية، ويقول "إذا أشار الحكيم بإصبعه إلى القمر، فإن السذج من الناس ينظرون للإصبع". هؤلاء هم الأغلبية، ينظرون للإصبع ويتمعنون به ويظهرون التفاسير والتأويلات والإعجاب بشكله، لأن القمر بعيد عن مداركهم. أما المرشح النزيه الذي لا يجيد لغة الخداع، فيبقى في الظل ملوماً محسوراً.

إقرأ أيضاً: العشوائيات الديمقراطية

للأسف، فإنَّ الشعوب تقاتل من أجل إقامة نظام الحكم الديمقراطي، لكنها بالنتيجة أول من يدفع ثمن التضحيات. ولو تمعنا قليلاً بالأنظمة الديمقراطية عند المجتمعات المتخلفة، سنلاحظ بوضوح تسيد الفساد والمحسوبية والظلم والتخلف. فما هو الحل بالنسبة للدول النائمة التي ابتليت بالديمقراطية كما ابتليت من قبل بالدكتاتورية؟ أبالعودة إلى نظام الحكم الدكتاتوري أو نظام الحكم العسكرتاري أو نظام الحكم الملكي، أو بالبقاء في ظل الديمقراطية الفاسدة؟

يبدو أن أفضل الحلول أكثرها مرارة. ويبدو أنَّ القدر قد حكم على الدول المتخلفة أن تبقى رهينة التخلف والفساد، ولا سبيل للخلاص، لأن الديمقراطين الفاسدين يعرفون أنَّ الناس سيدركون الحقيقة يوماً ما، وسيمتعضون من حيل الفاسدين، لذلك يسعى الفاسدون إلى بناء أجهزة أمنية عنيفة وتشريع قوانين لملاحقة من يسمونهم بالمخربين، الذين يعملون على إجهاض ديمقراطيتهم الفاسدة. وجوه الفاسدين تتكرر في كل انتخابات، فيصبحون كابوساً جاثماً على صدر المجتمع، يمتلكون القوة والجيوش والمال والإعلام.

إقرأ أيضاً: إشكالية المعارضة في الشرق الأوسط

خيط الأمل الوحيد المتبقي عند الشرفاء المخلصين لمجتمعاتهم للتخلص من هذه الكوابيس هو استغلال الفسحة الضيقة من الحرية في ظل النظام الديمقراطي الفاسد، والتحرك لإيصال الوعي إلى الناس، وإقناع الناس بأرائهم، والتركيز على ثلاثة شرائح اجتماعية مهمة لها تأثير كبير على باقي شرائح المجتمع: الفنانون والرياضون والطلبة، وخصوصاً طلبة المعاهد والجامعات. هذه الشرائح الثلاثة قريبة جداً من جيل الشباب، وهي الشرائح التي تتقبل التوعية وتتقبل الحقائق أكثر من غيرها، وهي على تواصل مع باقي شرائح المجتمع وقادرة على تغيير المعادلات على الأرض، فعلى كل مثقف محاولة الوصول إلى عقول هؤلاء، ومحاولة إيصال الحقائق وتذكيرهم بمسؤوليتهم داخل المجتمع.

إنَّ خيط الأمل هذا طويل ومعقد، ولكن علينا أن نتذكر دائماً أنَّ المجتمعات الراقية غيرتها أصحاب الثقافات والعقول الراقية، فلا مجتمع راق بدون عقول ثقافية راقية، لأن الفاسدين لا يمكن هزيمتهم بالقوة وبالعمل الثوري، بل بالثقافة والوعي.