في ظل السياسة الغربية التي تسعى إلى شيطنة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومحاولة إظهاره بأنه ديكتاتور متعطش للخراب والدماء، وتسويق هذه الأفكار في العالمين العربي والإسلامي، لا مناص من التذكير ببعض سياسات بوتين، والقيم التي يدافع عنها، والتي تتسق مع القيم الإسلامية، التي يسعى الغرب أيضاً إلى تقوضيها تحت ستار الحريات.
احترام الدين الإسلامي
في تموز (يوليو) 2023، انتشرت صور للرئيس بوتين على شبكات التواصل الاجتماعي، وهو يحمل نسخة من المصحف الشريف، أهداها إليه إمام مسجد "الجمعة" بمدينة "دربند" في داغستان، إبان زيارة أجراها يوم عيد الأضحى الى الجمهورية الإسلامية ذات الحكم الذاتي ضمن الاتحاد الروسي. وأتت تلك الزيارة في حمأة "ظاهرة" حرق نسخ من المصحف الشريف في أكثر من دولة أوروبية بموافقة السلطات تحت ستار الحريات المزعوم، ولا سيما حادثة إحراق سلوان موميكا العراقي الأصل نسخة من المصحف الشريف في السويد، وذلك قبل أيام فقط.
خلال الزيارة، عبر بوتين عن موقفه الراسخ من احترام الأديان، وخاصة الدين الإسلامي، بعكس ما يروج عنه في السرديات الغربية، حيث أكد أن "عدم احترام القرآن الكريم في روسيا يعد جريمة، بحسب الدستور، وبحسب المادة 282 من قانون العقوبات، وسنلتزم دائماً بهذه القواعد التشريعية، خلافاً لبعض الدول الأخرى التي تتصرف بطريقة مختلفة، ومنها من لا يحترم المشاعر الدينية للناس، ويقولون إنها ليست جريمة!". وهذا ما حدا بالأزهر الشريف الى توجيه "تحية خاصة للرئيس الروسي"، مثمناً "موقفه الشجاع ودفاعه عن مقدسات المسلمين". وبالفعل، فإنَّ روسيا تنفرد بكونها العظمى الوحيدة التي جرمت التعرض للقرآن الكريم بتشريع قانوني. وهذا ما طالبت العديد من الدول العربية والإسلامية بتطبيقه في الدول الأوروبية لمنع تكرار مثل هذه الحوادث المشينة، والتي تشجع خطاب الكراهية، ونمو حركات الإرهاب.
وحينما أحرق أحد المواطنين الروس نسخة من المصحف الشريف أمام مسجد فولغوغراد الرسوية في 19 أيار (مايو) الماضي، سارعت السلطات الروسية إلى اعتقاله، واعترف خلال التحقيق معه بأنه كان مدفوعاً من قبل الاستخبارات الأوكرانية للقيام بهذا الفعل المشين، مقابل مبلغ مالي كبير. وعاد الشخص نفسه، وقدم اعتذاراً لجميع المسلمين في العالم عن فعلته. وبالتالي قطعت موسكو دابر هذه الحملات تماماً على أراضيها، فمذاك لم تحصل أي حادثة مشابهة.
احترام العائلة
يتمتع المسلمون في الاتحاد الروسي، المقدر عددهم بنحو 20 مليون نسمة، بالحرية الكاملة في ممارسة شعائرهم الدينية. وهذا ما أكد عليه الرئيس الروسي خلال الزيارة نفسها إلى داغستان، حيث قال إنَّ "بطريرك روسيا يؤكد لنا دوماً أن المسلمين أخوتنا، وهذا يقوي وحدة شعبنا، المتعدد الجنسيات، المتنوع الطوائف، لكنه شعب موحد". والدولة الروسية لا تتدخل بتعيين المفتين، أو بحذف سور وآيات من القرآن الكريم لكونها لا تتواءم مع قيم الحداثة المزعومة، كما هو الحال في فرنسا وسواها من الدول التي تعرّف نفسها بـ"العالم الحر".
علاوة على ذلك، وبالرغم من كل الموجة العالمية لدعم حرية المثليين، والتي تعتبرها النخب الإسلامية تهديداً جدياً لمفهوم الأسرة والقيم المجتمعية التي تدافع عنها الشريعة الإسلامية، فإنَّ الرئيس بوتين انفرد عن سائر أقرانه من الزعماء العالميين بوقوفه ضد هذه الأفكار ومنع ترويجها في روسيا. وينطلق بوتين من المفهوم الإسلامي نفسه الذي يعتبر بأن الغرب يحاول تدمير الأخلاق الإنسانية والقيم العائلية التقليدية التي تشكلت عبر الأجيال، وإثارة الاضطرابات الاجتماعية وتعزيز ثقافة الانحلال.
ومنذ نهاية عام 2022، فرضت موسكو عقوبات قانونية لمنع الترويج لكل ما يرتبط بهذه الأفكار. بيد أن الرئيس الروسي لم يكتف بذلك، بل واظب على إطلاق مواقف تؤكد تشدده في هذا الخصوص. وأحدث مواقفه كانت خلال جلسة حكومية في كانون الثاني (يناير) قال فيها إنَّ "روسيا لا يمكن أن تُحكم من غريبي الأطوار الذين يظهرون مؤخراتهم"، وكان ذلك تعقيباً على حفل أقامه مشاهير في موسكو قبل مدة قصيرة، وأثار ردود فعل شعبية عنيفة، وأغضب العديد من السياسيين الروس. الأمر الذي يعكس مدى ترسخ القيم والأفكار التي يدافع عنها الرئيس الروسي، وأنها ليست وليدة عوامل سياسية أو ظرفية معينة.
عالم متعدد الأقطاب
إحدى أبرز الأهداف التي ما انفك الرئيس الروسي عن الترويج لها، هي سعيه إلى إنهاء عالم القطب الأميركي الواحد، ليس نحو استعادة الثنائية القطبية الروسية الأميركية، إنما نحو عالم متعدد الأقطاب. وهو ما يعد ذو فائدة عظيمة للعالمين العربي والإسلامي اللذان عانا كثيراً من التمييز العنصري والتنميط والإسقاط الهوياتي تحت ظلال الهيمنة الأميركية.
إنَّ الخروج من هيمنة القطب الأميركي، يمنح العالمان العربي والإسلامي هامشاً واسعاً من القدرة على المناورة، ويتيح لهما الاستفادة من تناقضات الأقطاب لتحقيق أهداف سياسية، ولعب أداور رئيسية. وهذا ما يعده الغرب من المحرمات. ويمكن الاستدلال على ذلك بالكثير من الشواهد، مثل الحملات المتكررة على الدول الخليجية لمنعها من تملك بعض الأندية في إنجلترا، في الوقت الذي يهيمن فيه رجال أعمال أميركيون على عدد من أبرز الأندية الإنجليزية دون أن يلقى ذلك أي اعتراض. وكذلك الحملة التي تشن مؤخراً على الإمارات لمنعها من امتلاك إحدى أعرق الصحف البريطانية.
مع ذلك، وبالرغم من العلاقات المميزة التي تجمع روسيا بكبرى الدول العربية والإسلامية، إلا أن ثمة عائقاً ما يزال يحول دون حصول تأثير ملموس في تطوير العلاقات بين روسيا والعالمين العربي والإسلامي، أكان على مستوى النخب، أم على مستوى العامة. هذا العائق يتمثل بحشر روسيا في زاوية التحالف مع إيران، وبالتالي تصنيفها في خانة المؤيدين لمحور الممانعة. ولذا يمكن ملاحظة أن غالبية ضيوف وسائل الإعلام الروسية الناطقة باللغة العربية إما من قيادات محور الممانعة أو من المتحالفين معه.
ويعكس ذلك مدى تأثر النخب والجماهير في العالمين العربي والإسلامي بالسردية الغربية، في الوقت الذي لا يعدو التحالف مع إيران كونه تحالفاً سياسياً مبنياً على مصالح متبادلة، وليس حلفاً مقدساً. يمكن ملاحظة أن روسيا هي الوحيدة من بين الدول الكبرى التي وقفت بقوة إلى جانب الشعب الفلسطيني وأهل غزة، بالرغم من العلاقات المميزة التي تجمع موسكو بتل أبيب.
وعليه، فإنَّ المطلوب اليوم هو المزيد من العمل من أجل توضيح المواقف الروسية، والتي تتسق مع القيم العربية والإسلامية، في مواجهة الغرب المسيطر على الثقافة والإعلام وصناعة السرديات المؤثرة في وعي الشعوب.
التعليقات