يقدم لنا الأدب المسرحي أداة مفاهيمية فعالة في شرح الذهنية السياسية التي قبعت خلف الردّ الإيراني التهريجي على إسرائيل انتقاماً من ضرب الأخيرة لقنصليتها في دمشق، ومقتل كبار قادة الحرس الثوري فيها. فقد سبق للمفكر الفرنسي غي ديبور إلى الاستعانة بمفهومي الاستعراض والفرجة في كتابه "مجتمع الاستعراض" في تفسير المظاهر الزائفة، التي تطغى على الحياة الرأسمالية على جميع المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية.

من هذا المنظور تبدو السياسة، وهو بالطبع منظور النظام الإيراني كذلك، كمسرح كبير لاستعراض الهيبة واستعادتها، وفيها تمارس الأدوار وتتوزع حسب مستوى الأداء والقدرة على الاستعراض، فهنا من يمارس دور البطولة، وهناك من يمارس دوراً ثانوياً، علاوة على المتفرجين المبهورين بدور البطل. لكن المخرج الحقيقي وكاتب السيناريو لا يظهران في المشهد، إنما يثويان خلف الكواليس، ويتابعان بدقة تنفيذ الممثلين لأدوارهم أمام الجمهور. كذلك الأمر مع ما حدث وطغى على الأحداث ورصدتها وسائل الإعلام من وقائع ومواقف خلال الأيام الأخيرة بشأن الردّ الانتقامي الإيراني على إسرائيل. وبالنتيجة ظهر أن الحوارات الخفية، غير المعلنة، في الأزقة الخلفية المظلمة، كانت الأهم والأكثر فعالية من الثرثرات المعلنة وقرقعة الشعارات في الساحات العامة، وكان هذا الردّ المشذّب والمنمّق والمنضبط والصاخب في آن معاً، الذي شهدناه في مشهد أقرب لكرنفال استعراضي من الألعاب النارية، الهدف منه هو إثارة الانبهار لدى جمهور ومؤيدي النظام الإيراني.

لقد أصبح نظام الولي الفقيه أمام تحدّ استراتيجي يتعلق بمكانته وهيبته، بعد قصف القنصلية، تعيّن عليه الردّ كي يحتفظ بتلك المكانة والهيبة في نظر جمهوره وأتباعه ومواليه. وفي الوقت نفسه كان عليه أن يراعي في ردّه الانتقامي ألّا يثير حفيظة الولايات المتحدة والدولة الأوروبية ويدفعها لانخراط في حرب شاملة ضده لا تحمد عواقبها.

إذن، المشكلة الرئيسة بالنسبة للنظام الإيراني تمثلت في الطريقة التي يتعين عليه ممارسة هيبته واستعادتها على نحو يضمن على الأقل عدم هزيمته، وليس بالضرورة الانتصار على إسرائيل. وبعبارات أخرى، كيف يستعرض نفسه في مسرح أيديولوجيا المقاومة، كي يحتفظ بهيمنته وصورته أمام المتفرجين من الأتباع والموالين.

والحق أنَّ النظام الإيراني، على شاكلة العديد من الأنظمة العربية التي حوّلت هزائمها إلى انتصارات تاريخية فريدة، لديه إرث هائل ومتراكم من الاستعراضات السياسية التي تحايل خلالها على هزائمه وقدمها كانتصارات استثنائية إلى جمهور مؤيديه، لعل أقربها انتقامه بتلك الطريقة الاستعراضية لمقتل قاسم سليماني، عبر تفاهم سرّي مع الولايات المتحدة وصفقة سمحت له بالقيام بتلك الضربات والألعاب النارية على قاعدة عين الأسد كما اعترف بذلك صراحة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.

وهكذا، تستبدل في المسرح السياسي، وبوساطة الاستعراض، المصالح الحقيقية بالشعارات، بحيث تستحيل هذه الأخيرة إلى حقائق ويقينيات عقدية في نظر العامة، وبالنتيجة تتحول السياسة إلى طقوس احتفالية وكرنفالات صاخبة وألعاب نارية على شاكلة الانتقام الإيراني الأخير. ومع هذا لم يخلُ الاستعراض الإيراني من مفارقات كاريكاتورية، فضحت الأداء الهزيل للنظام، منها:

- ثلاثمائة صاروخ ومسيرة أطلقت على إسرائيل أسقطت 99 بالمئة منها قبل أن تصل سماء دولة إسرائيل، والمفارقة، أو الكوميديا السوداء تكمن في أن الصاروخ الوحيد الذي أصاب هدفاً، سقط في قرية للبدو العرب في صحراء النقب. فالألعاب النارية الاستعراضية للمسيرات والصواريخ الإيرانية وشعارات "النصر المبين" لم تتمكن حتى من إطفاء أنوار شارع واحد في تل أبيب.

- المفارقة الثانية تكمن في مشاهدة القبة الحديدية الإسرائيلية وهي تدافع عن قبة الصخر "المقدسة" في مواجهة الصواريخ التي أطلقها "فيلق القدس" بأمر من القائد المرشد، الذي آل على نفسه تحرير القدس.

- المفارقة الثالثة، تكمن في أن مسيرة واحدة أطاحت برأس قاسم سليماني والمهندس وعدد من مساعديهما دون كل هذا الضجيج الإعلامي وهدير مسيرات "الهوب هوب" في الأجواء. كذلك عمدت طائرة واحدة إلى دكّ القنصلية الإيرانية في دمشق، وقتلت محمد رضا زاهدي وعدداَ من قادة الحرس الثوري ومستشاريه، دون أيّ استعراض شعاراتي فارغ (خيبر خيبر يا يهود!!)…

- المفارقة الرابعة في أن أحفاد هؤلاء اليهود يسيرون على رؤوس أصابعهم دون صخب، بكل أناة، وينتقمون لأنفسهم دون أيّ ضجيج أو استعراض، في حين أن الآخرين يخبطون الأرض بأقدامهم خبطاً، يثيرون الزوابع والغبار، يملؤون الأرض صراخاً وزعيقاً وسط قطيع من المصفقين، دون أن يحققوا أتفه انتصار أو يسجلوا إنجازاً. الفارق هنا بين العقل العلمي الأداتي والعقل الشعاراتي للغوغاء.

- المفارقة الخامسة، تكمن في أنَّ إسرائيل كانت على علم دقيق بموعد الهجوم وعدد الضربات، وربما حتى موعد وصولها ومسارها، ولهذا أعدّت لاستقبالها كرنفالاً متقناً وحفلاً من الألعاب النارية المضادة، التي أثارت حتى حسد النجوم في السماء. والحقيقة أنَّ رحلة قافلة المسيرات الإيرانية العابرة للدول كانت مملة وتدعو للسأم.

- المفارقة السادسة، تتمثل في إعلان البعثة الدبلوماسية الإيرانية في الأمم المتحدة عن انتهاء الهجوم المنمّق والمشذّب، والمتقن في الاستعراض، حتى قبل وصول الصواريخ إلى الأجواء الإسرائيلية.