هناك شعوب تعيش في بلدانها وأوطانها وكأنها لاجئة في بلدان أجنبية، تعيش تحت براثِن الفقر المُدقِع والجهل الشديد. تعيش حياة الذُّلّ والمَهانَة في أحضان أنظمة حُكم جائر ظالم وشمولي، تتوفّر هذه البلدان على ثروات طبيعيّة هائلة تُذرّ عليها البلايين من الدولارات، لا يَصِل منها إلى شرائح عريضة من هذه المجتمعات شيْئاً يُذكر.
طبقاتٌ ثريةٌ تتحكَّم في كلّ أمور هذه الدّول دون مراعاةٍ لِمعاناة الشعوب ودون إيلاء ثرواتِها البشريّة الهائلة أيّ اهتمام، استولت على جميع خيرات البلدان، تُشيِّد لِنفسِها قُصوراً فخمة وتمتَلك سياراتٍ فاخِرة وتستولي على أراضٍ فلاحيّة تجعل منها ضيعاتٍ فلاحيَّةً شاسعة لجميع أنواع الخضر والفواكه، التي يتمّ تصديرها إلى دول أجنبيّة، الشيء الذي يُكسِبُها مليارات الدولارات، كما تمتلك شركات ومصانع كثيرة لمُختلف أنواع المُنتجات، من ألبسة وسيارات وقطاع غيار ومنتوجات غذائيّة وما إلى ذلك، مما جعلها تستولي على الأسواق وتَتحكّم في أسعار المُنتجات وأثمانِها.
إنّها طبقات لا يهمّها إلّا الربح والكسْب ولا تهمّها المصلحة العامّة لهذه البلدان ومواطنيها، أولئك المواطنون الذين يفتقرون في أوطانهم إلى العيش الكريم والعدالة الاجتماعيّة والاستفادة من موارد بلدانهم الطبيعيّة الجمّة. شعوب تفتقر في معظمها إلى رعاية صحّيّة وإلى تعليم جيّد وإلى شُغل دائم... فمعظم المستشفيات مُتمركزة في المُدن الكبرى لا يستفيد من خدماتها إلّا الطبقات الغنيّة الميسورة، أما ساكنة هوامش المُدن والأرياف والبوادي فهي محرومة من المشافي للعلاج وتقديم الخدمات الصحيّة اللازِمة التي يحتاج إليها أبناؤها ونساؤها، علاوَة على شبه انعدام للمدارس لتعليم النشء تعليماً يتلاءم ومتطلّباتِ عصر العلم والتكنولوجيات الحديثة التي يعرفها عالم اليوم، عالم التحضُّر والحداثة.
تَسكُن مُعظم هذه الشعوب المحرومة والمُهمَّشة في أطراف المُدنِ وفي الأرياف في ظروف معيشيّةٍ جدّ صعبة، تقطن بيوتاً هشّة البُنْيان، بيوتاً من القصدير والطّين، لا مياهَ نظيفةً ولا كهرباءَ ولا قنوات للصرف الصِّحّي.
إقرأ أيضاً: قرار مُجحف في حقّ الفلسطينيّين
وللإشارة، فساكنة الأرياف من أكثر الفئات تهميشاً وإقصاءً من الخدمات الضروريّة للحياة الكريمة، فالمدارس في هذه المناطق شبه مُنعدمة، وبالأخصِّ الأسلاك العليا، التي توجد في المُدن الكبرى، والتي لا يَلِجُها إلّا أبناء الأغنياء، مِمّا يجعل أطفال هذه الأرياف والبوادي ينقطِعون عن الدِراسة في عُمر مُبكِّر دون إكمال دراستِهم الشيء الذي يجعل أجيالاً عديدةً عُرضَةً للضياع. زِد على ذلك وُعورة المسالِك الطرقيّة غير المُعبَّدة التي لا تمُرّ منها لا الشاحنات ولا الحافلات ولا سيارات الإسعاف، الشيء الذي يدفَع بمواطني هذه المناطق إلى استعمال الدّوابّ من حميرٍ وبِغال للتنقُّل عبر هذه التضاريس الوعرة إلى المدن البعيدة عن مقرّ سُكناهُم للحصول على حاجياتهم الضروريّة، من مأْكَلٍ ومَشرَب ومَلبسٍ وغيرها، وكذا نقْلِ مَرضاهم ونسائِهم الحوامل إلى المستشفيات المُتمركزة في تلك المدن، ومن هؤلاء مَن يتوَفَّوْن في الطريق قبل الوصول إليها. وخلال فصل الشتاء المُمطِر والمُثلِج تجرِف السُّيول هذه المسالك الطرقيّة كما تتراكَم فيها الثلوج وتتعرّض الساكنة إلى عُزلَةٍ تامّة عن العالم الخارجيّ، وتقوم إثْرَها "السلطات المُتحكِّمة" بتقديم ما تُسمِّيه "مُساعدات"، وهي عبارة عن بعض الموادّ الغذائيّة والطبّيّة الضروريّة لإبقاء هؤلاء السكان على قيْد الحياة؛ "مُساعدات" يعتبرها سكّان هذه المناطق مِنّةً من "السلطات" لِجهلِهم وعدم إدراكِهم بأنّ كل ما تمَّ تقديمه لهم هو من المالِ العامّ، مال الشعوب، الذي تعبثُ به هذه "السلطات" وتتصرَّف فيه كما تشاء وكما تُريدُ وكما يحلو لها وحسب هَواها.
إقرأ أيضاً: الحِياد السلبي للعرب والمُسلمين
لِلعلم، فإنَّ معظم الشباب العاطل في هذه البلدان يُفضِّلون مُغادرَة أوطانهم والهجرة إلى البلدان الغربيّة من أجل الشغل وبحثاً عن الكرامة الإنسانيّة التي يفتقدونها في بلدانهم. يلجأ هؤلاء الشباب إلى الهجرة السرّية، عبر قوارِب تفتقِر إلى أبسط مقومات السلامة، مِمّا يجعل مُعظمهم عرضةً للغرق في أعماق البحر وقبل الوُصول إلى الضّفّة الأخرى. إنها كارِثةُ إنسانيّة تُدمي القلوب والأفئِدة، كارثةٌ تقع في بلدان غنية تَولّت أمرَها غَصباً طبقات مُسيْطِرة على "الحكم" وإدارة دواليبِه وفقَ مصالحها الخاصّة بعيداً عن أيّة مصلحةٍ عامّة للوطن والمواطن. وكلّ مَنْ تُسوِّل لهم أنْفُسُهم فضح أسرار هذه "الطبقة المُتحكِّمة" مآلهم السجن لإسكاتِ أصواتهم وجعلهم عبْرةً للآخرين.
التعليقات