يستخدم الكثير من المعلقين والكتاب، وحتى بعض الصحفيين، بالإضافة إلى أصحاب صفحات السوشال ميديا، المساحات التي وفرتها لهم تكنولوجيا العصر لنقل ما تسرب عن أن إسرائيل أبلغت إيران بموقع الضربة أو بالأماكن التي سيتم ضربها. وينقل أحدهم عن مراسل قناة "كان" الإسرائيلية قوله عن الضربة: "لو كنت مكان خامنئي لعدت إلى النوم"، متناسياً هذا الكاتب أن هذه القناة معروفة بعدائها الشديد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأنها يمكن أن تبث أي كلام.

آخرون قالوا إنَّ الضربات الإسرائيلية متفق عليها لإرضاء الرأي العام الإسرائيلي لضمان عدم استفزازه. وقال آخر إنها هجمات مسرحية ومجرد "خرمشات"، وبها انتهت الحرب الإيرانية الإسرائيلية مع استمرار صراع النفوذ والتوسع.

آخر كتب في السوشال ميديا أنَّ ضربة إسرائيل لإيران "منزلة بين المنزلتين"، لا هي ضربت ولا هي سكتت، بينما علق مشارك آخر بأن الوقت مبكر لتقييم الضربة الإسرائيلية، لكنَّ المؤشرات الأولية تفيد بأنها كانت ضعيفة. يطالبون بفتح الجبهات، لكنهم لا يقدمون أولادهم؛ أي إنهم يريدون جبهات مفتوحة وحروباً وقتالاً طالما من يضحون بأرواحهم ليسوا أهلهم وليسوا أولادهم. يحارب هؤلاء المعلقون على صفحات السوشال ميديا ثم يعودون إلى غفواتهم ليكملوا أحلامهم.

لنترك الإعلام العربي التحريضي الذي يدعي أنَّ الأمر كان مجرد مسرحية، ولنترك الذين يقولون إنَّ الضربة الإسرائيلية ضعيفة، ولنضحك على الذي كتب أنَّ الجبل تمخض فولد فأراً. في اعتقادي أن هذه الضربة كانت قاصمة وجاءت مؤلمة كما قالت إسرائيل، لكن على ما يبدو فإنَّ الجانبين الإيراني والإسرائيلي يريدان تقليل أثرها. إسرائيل فعلت ذلك حتى لا تستفز إيران بردّ يائس، وإيران سكتت حتى لا تظهر مدى ضعفها وهشاشتها وانكشافها أمام إسرائيل وتبرير امتناعها عن الرد. لكن إسرائيل في الوقت نفسه أظهرت بعض صور الأقمار الصناعية التي تبين الحجم الكبير للأضرار التي نجمت عن الضربة.

كذلك سارعت دول عربية عدَّة لإدانة الضربة الإسرائيلية وكأنها تعزي إيران وتواسيها بهدف تهدئتها وتخفيف أثر الصدمة عليها، وحتى لا تتهم هذه الدول بأنها موافقة على الضربة.

في كل مرة، يثبت كثير من المعلقين تعلقهم بنظرية المؤامرة وفكرة التآمر وخيوط التواطؤ، وأي عملية أو إجراء أو قرار لا يفهمونه أو لا يريدون أن يفهموه ينسبونه إلى مؤامرة ويستريحون ويطفئون سراج عقولهم عن التفكير.

وهؤلاء المؤمنون بنظرية المؤامرة قسمان: الأول مؤيد لإيران، وهؤلاء يصرون على أنَّ الضربة الإسرائيلية كانت سطحية وغير مؤثرة، وأنَّ القدرات العسكرية الإسرائيلية أقل بكثير مما تعلن عنه إسرائيل. أما القسم الثاني فهم معارضون لإسرائيل ولإيران معاً، لذلك يرون في الحرب الدائرة بين إيران وإسرائيل الآن مجرد مؤامرة مشتركة ومسرحية متفقاً عليها. ومن جهة ثانية لا يمكنهم الاقتناع بقوة إسرائيل وقدرتها على الوصول إلى الأهداف الإيرانية التي تم ضربها. فيقللون من أثر الضربة ويصرون أنها كانت لمجرد رفع العتب وتبييض الوجه أمام الرأي العام الإسرائيلي.

الإيمان بنظرية المؤامرة هو أحد منافذ الهروب من الواقع، وهذا هو الأسلوب الأسهل لإعفاء المرء الفاشل نفسه من المسؤولية. فالتفسير المؤامراتي لأيّ حدث يريح صاحبه الذي لا يريد أن يصدق الحقيقة، فيحمل المسؤولية لجهة وهمية أو خارجية أو غير موجودة أبداً، أو أنه يضع أهدافاً لذلك الحدث أبعد ما تكون عن الأهداف الحقيقية. وفي الأغلب تكون فكرة المؤامرة مجرد أمنيات خفية لدى حاملها أو الذي يروج لها، أو أنها حيلة سياسية مبرمجة من جهة سلطوية لصرف الأنظار عن المسألة الحقيقية. واللجوء إلى الغيبيات يعطي الضعفاء والفاشلين حالة من الاطمئنان، فيستريحون من عناء التفكير وعناء تحمل المسؤولية.

إقرأ أيضاً: أي غزة بعد الحرب؟

لا أقول إنني أقف في معسكر إسرائيل، لكني أثق بقدراتها العسكرية وبياناتها. ولنا في التجارب السابقة عبرات ودروس. رأينا في الحروب السابقة منذ عام 1948 كيف برع العرب في تحويل الهزائم إلى انتصارات إلهية ما دام النظام لا يزال موجوداً بعد الحرب. كنا نسمع بيانات علنية عن الصمود والانتصار والتحدي، ثم تنكشف الأمور بعد ذلك وبكل وضوح عن حقائق صادمة. في حرب حزيران (يونيو) استهترنا بقدرة إسرائيل ولم نصدق نتيجة العدوان إلا بعد مرور أيام على الاحتلال العسكري الإسرائيلي لأراضي ثلاث دول عربية. وفي تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1973، هللنا للعبور والتحرير لنكتشف بعد عشرة أيام من القتال أنَّ الجيش الإسرائيلي عبر إلى غربي القناة واحتل أراضي شاسعة وحاصر الجيش الثاني المصري. وفي جبهة الجولان، صدمنا باقتراب الجيش الإسرائيلي من دمشق بعد أن هللنا لتحرير بضعة أمتار من الجولان المحتل.

في عام 1982، كان ياسر عرفات، على سبيل المثال، يتحفنا بتوقعات النصر، ثم فاجأ العالم بتوقيعه على بيان يقول فيه إنه يقبل بتطبيق جميع قرارات الأمم المتحدة (وهذه القرارات تشمل قرار التقسيم وقرار 242 الذي ظل يرفضه)، ثم روعتنا مشاهد منظمة التحرير الفلسطينية وهي تغادر بيروت وتخلي لبنان وتبدأ الحوار مع الولايات المتحدة وصولاً إلى أوسلو 1993.

إقرأ أيضاً: إلى أين يأخذك حزب الله يا لبنان!

وفي حرب 2006، اعتقدنا أنَّ إسرائيل ستركع أمام ردع مقاومة حزب الله، لكننا صحونا بعد شهر من الحرب على دمار شامل في معظم أنحاء لبنان، وخاصة الجنوب اللبناني، ومع ذلك وصف الحزب تلك الهزيمة بأنها "نصر إلهي".

هذا القائد المهزوم نفسه جرَّ لبنان إلى حرب مدمرة دمرت لبنان ودمرت حزبه قبل ذلك، مع أنه كان يعد بحرب تتخطى الحدود والقيود، وكتب العشرات على صفحات السوشال ميديا المدائح المدبجة في هذا القائد الذي قُتل في مخبأه تحت الأرض قبل وقت قصير من موعد خروجه من لبنان بصحبة القائد الإيراني الذي جاء إلى بيروت خصيصاً لكي يصحبه في هروبه.

والآن نجد الجيش الإسرائيلي يحتل جنوب لبنان بطريقة القضم البطيء ويدمر المخابئ والأنفاق التي كان حزب الله يعد الفلسطينيين بأنه سيحرر من خلالها أرض فلسطين. الجيش الإسرائيلي الآن في الجنوب اللبناني يسرح ويمرح ويصول ويجول في الجنوب وينقل ترسانة الحزب بعيداً عن لبنان.

إقرأ أيضاً: النكبة الثانية: غزوة السابع من أكتوبر

وكتب آخرون يمتدحون يحيى السنوار الذي تسبب في نكبة غزة ودمارها، وجعلوا منه النموذج الفريد للأجيال القادمة ونموذج القائد المقاتل على الجبهة، مطالبين بتدريس هذا النموذج في مناهج التربية والتعليم، مع أنه كان مختبئاً في الأنفاق طوال سنة كانت فيها غزة تموت بالموت البطيء ولم يخرج منها إلا يوم مقتله، وقد كان يستعد للفرار خارج القطاع.

في إحدى المحطات الفضائية وفي برنامج شبابي متحمس، قالت إحدى المشاركات إن "سبعة وثلاثين ألف شهيد يجب أن يكون ثمنهم أكثر من فلسطين التاريخية". والآن بعد أن وصل عدد القتلى إلى ما يزيد عن أربعين ألف شخص، لم يعد ثمنهم إلا سلامة رأس قادة حماس ومرورهم الآمن هروباً من جحيم الحرب التي أوقعوا فيها قطاع غزة.