&سيكون حظ الشاب إدريس مرة أخرى عاثرا، حين لم يسمح له باجتياز امتحانات الشهادة الثانوية أو ما يعادل اليوم شهادة البكالوريا، لكونه، كما يؤكد ذلك، لم يستطع أن يجتاز السنة المؤهلة للمرور لهذا الاختبار، هذا إضافة إلى كونه كان يعاني من ضعف واضح في المواد العلمية، وذلك على عكس المواد الأدبية التي كان متفوقا فيها. ليجد نفسه، هذه المرة، متسكعا ومشتتا خارج أسوار الفصول المدرسية.
با ادريس
ضوء الشموع والكتابات الاولى
وقد صادف هذا "التخرج" الاضطراري أن تزوج الأخ الأكبر سي محمد، ثم صار له أبناء، مما كان يعني أن الشاب إدريس أصبح، أمام هذا الوضع المستجد، خارج دائرة الاهتمام والرعاية والجدب، التي كان مشمولا بها في وقت مضى. ولم يكن أمامه من حل سوى الانتقال للاستقرار ببيت عمه سي قدور، زوج " نانا "، والذي كان يقطن ببيت يتواجد بحي "قطع ولد عيشة"، القريب من حي "فرانس فيل"، ومن المكان الذي شيد فوقه المركب الثقافي"أنوال" التابع للجماعة الحضرية للمعاريف. وقد زاد من حماس العم وزوجته "نانا" لاستضافة إدريس عندهما، كونهما كانا محرومين من نعمة الإنجاب، الأمر الذي جعل ادريس يحظى بعناية خاصة وبجو عائلي حقيقي وحميمي طالما افتقده فيما مضى من السنوات، حيث خصته "نانا" بغرفة مستقلة، شهدت أولى محاولاته في الكتابة الأدبية والصحافية، والتي كتبت كلها على ضوء الشموع.
ادريس علال الخوري والافتتان بجبران
وكأي "كاتب" مبتدئ وحالم بشهرة نائية ومتخيلة، وجد الشاب إدريس نفسه منغمسا في تلك العوالم المخملية العذبة التي رسخ أطيافها جبران خليل جبران، في وجدانات جيل بأكمله،جيل كان يعاني من ذلك الحيف الأخلاقي الفائض عن حاجته، وذلك من خلال تلك& اللغة الراقصة والمشربة بعاطفة منبعثة عن عمق إنساني سحيق، ملائكي وحالم. لذلك، فلا غرابة في أن نجد إدريس علال الخوري (وهذا هو أول إسم اختاره صاحبنا في تلك البدايات الباكرة كتوقيع خاص لكتاباته) يتحدث عن جبران وعن كتاب ومبدعين آخرين بكثير من التأثر والتقدير، حيث يقول: "كنت أقرأ جبران، الذي أعتبره أستاذي الأول في الكتابة، نظرا لأسلوبه الشاعري العذب، ونظرا كذلك لجرأته الكبيرة وتحديه لمجموعة من القيم والمواضعات الاجتماعية التي كانت سائدة في زمنه بلبنان. كما يجب الاعتراف كذلك بأنني، أيام كنت تلميذا بالمدرسة، كان لدي ميول نحو قراءة الأدب، لكن الذي حبب لي الإبداع هي إحدى التلاوات، وكانت تسمى "القراءة المصورة "، وهي من إنتاج لبناني جمِيل (أو جاميل بحسب با ادريس)، تتضمن نصوصا عربية مختارة من التراث، كما تحتوي كذلك على كتابات حديثة لكتاب ومبدعين من لبنان ومصر، مثل أحمد شوقي ومارون عبود ومصطفى صادق الرافعي وخليل تقي الدين والبستاني إلخ...
أحمد الله انني لم التحق بسلك التعليم
وإضافة إلى جبران خليل جبران، كما أسلفت، كنت أقرأ لنجيب محفوظ، محمود تيمور، محمود البدوي - وهو قاص وروائي لا أحد يعرفه للأسف - ثم هناك أيضا يحيى حقي وأحمد شوقي والبارودي... وأسماء أخرى كثيرة. المهم لقد كنت أقرأ لكل الجيل السابق عنا، عن طريق إمكانياتي الذاتية الصعبة. لقد كانت قدراتي الأدبية قد بدأت تبرز، لا سيما في حصة الإنشاء التي قادتني مباشرة إلى الكتابة. لقد كانت دائما تحدوني الرغبة في أن أصبح معلما، لكن هذه الأمنية لم تتحقق. وأحمد الله أنني لم ألتحق بسلك التعليم، وإلا لكنت اليوم موزعا بين لعب الرهان و الآجور.
كانت هذه الأسماء، وأخرى غيرها كثيرة، محفزا حقيقيا لكاتبنا نحو طرق الأبواب المجهولة والغامضة لعالم الكتابة والإبداع، ذلك أنه كان يذهب بعيدا في استيهام وتمثل العديد من الشخوص القصصية والروائية التي كان يقرأها، بل أكثر من ذلك فإنه كان يتمنى، في أحيان كثيرة، أن يكون بطل أو أبطال تلك الروايات والقصص، التي كان شغوفا بمصاحبتها. وتلك كانت بمثابة فترة مراهقة الكاتب الأدبية.
في هذه المرحلة كذلك، سوف لن يسلم إدريس، على غرار باقي زملائه ورفاقه من أبناء جيله من الكتاب المبتدئين، من قرض الشعر، حتى إنه يذهب في ذلك بعيدا، حين يعتبر نفسه أنه بدأ شاعرا، لكن سرعان ما سرقه إغراء السرد وأخذ باهتمامه سحر الحكاية.
نهاد التكرلي انتبه الى الوجودية قبل سهيل ادريس
وعن هذه التجربة المبكرة يقول: "أولا أنني بدأت شاعرا، ولدي ديوان شعر مخطوط مازلت أحتفظ به حتى هذه اللحظة، وقد أنهيت ترتيب نصوصه وتنقيحها وتشذيبها من الزوائد في سنة 1964 بالضبط. وهذا الديوان هو عبارة عن مجموعة من القصائد التي كنت أحاكي من خلالها قصائد حرة أو نثرية لشعراء آخرين، أذكر من بين هؤلاء الشعراء، على سبيل المثال لا الحصر، الشاعر اللبناني نقولا قربان (هكذا كان يكتب إسمه)، وكان ينشر آنذاك بمجلة "الأديب" اللبنانية، لصاحبها المرحوم ألبير أديب. وقد كانت، بالمناسبة، مجلة رائدة وسباقة إلى الدعوة إلى تبني قصيدة النثر كشكل شعري حديث، حاول رواده الخروج عن كل ما هو سائد ومتداول ونمطي، وهذا شيء غير معروف للأسف لدى العديد من شعراء الجيل الجديد. وقد كانت مجلة " الأديب " وجهة للعديد من الأقلام الأدبية البارزة من العراق وسوريا،& إلى جانب اللبنانيين بطبيعة الحال. وأذكر من أولئك مثلا الأخوين فؤاد ونهاد التكرلي، هذا الأخير الذي يعتبر من الأوائل الذين اهتموا بالوجودية في العالم العربي، وذلك انطلاقا من الترجمات التي كان ينجزها من الفرنسية إلى العربية، قبل سهيل إدريس وغيره من الذين انتبهوا بعده إلى جان بول سارتر وسيمون دوبوفوار وغيرهما.
نشر قصائده في مجلة "الأديب" لألبير الخوري
من هذه النافذة، نافذة مجلة " الأديب " اللبنانية، أصيب صاحبنا بلوثة الشعر، وهي اللوثة التي يعتبر أنها كانت عبارة عن استيهامات وتمثلات لنصوص وتجارب أخرى سابقة، تدور موضوعاتها غالبا في الحب والغزل وما إلى ذلك. وقد نشر بعضا من هذه المحاولات الشعرية الأولى بمجلة " الأديب " نفسها، في تلك الفترة.
&بعد هذه التجربة، سيتجه، وبشكل حاسم هذا المرة، نحو كتابة الخاطرة الأدبية، وهي الصيغة التي اعتبرها، على حد قوله، مناسبة وملائمة لتفريغ العديد من المكبوتات الذهنية كالطبيعة والحب والبحر و المرأة والعاشقة المتوهمة... وبما أنه كان يعتقد أنه لا يملك في نفسه بعضا من ذلك الحس الحكائي الذي تتطلبه الكتابة الروائية، فقد صوب كل اهتمامه، لما لمسه في نفسه من قدرات على اقتناص صغريات التفاصيل اليومية وأشكال الوقائع العابرة واللامتوقعة، نحو كتابة القصة القصيرة، وكذلك صار إلى يومنا هذا.
معرفتي بالشعر افادتني في السرد
ولعل& ذلك العبور الباكر، الذي قاده إلى تجريب الكتابة الشعرية وتمثل بعض تقنياتها، سواء تعلق الأمر بالتصوير الشعري أو الإيقاع أو الاقتضاب والاختزال، هو ما ساعده، في العديد من تجاربه القصصية والصحافية، على استعمال هذه التقنيات، بما ينتج نصا مغريا بالقراءة والإنصات. وهو الأمر الذي يؤكده بقوله: "قد تلاحظ في كثير من نصوصي القصصية مسحة وتعابير وصور شعرية واضحة، وهو ما يرجع، في اعتقادي دائما، إلى تلك المعرفة اللابأس بها للشعر وإنتاجاته المتنوعة .
وبالعودة دائما إلى تلك البدايات، التي لم تخل من تجريب وتمرس وتمثل ذكي لما قد تتيحه العين المجردة والتجربة الحياتية الشخصية، سنجد أن ادريس الخوري كان محظوظا في جانب أساسي من مساره الإبداعي الخالص. ذلك أن تواجده بمدينة كالدار البيضاء، وفر له كثيرا من إمكانيات التحصيل والمعرفة واكتشافات الآخر، بتنوعه واختلافه وغناه. ذلك أن الدار البيضاء، في هذا المعبر التاريخي المشتعل حيوية ونضالا وفاعلية، كانت تشهد حركة ثقافية متميزة، حيث تعدد الأنشطة الثقافية النوعية بالنادي الثقافي مثلا، والذي كان متواجدا، آنذاك، بشارع علال بنعبد الله، هذا النادي الذي كان إدريس من زبنائه الخلص المتابعين لتلك القراءات الشعرية التي كان يحييها على شرف شعراء مغاربة كان لهم حضور إبداعي- شعري لافت، في تلك الفترة، مثل الشاعر المرحوم مصطفى المعداوي، الشقيق الأصغر للشاعر المرحوم بدوره أحمد المجاطي.
كما كانت تعقد بنفس النادي العديد من المحاضرات في الأدب وتاريخه على الخصوص، والتي كان يستدعى لتأطيرها كتاب ومبدعون وشعراء من أمثال محمد الكتاني ومصطفى التومي وعلي الهواري ومحمد العراقي، إلى جانب أسماء أخرى كانت تعيش بدايات إرهاصاتها الشعرية والأدبية مع مطلع الستينات.
اطفولة سينمائية أثرت في الكتابة الادبية
وعلى إيقاع نفس الديناميكية الملفتة، لعب الجو التأسيسي للعمل الجمعوي دوره الكبير والمؤثر في التنشيط الثقافي، الذي كانت تعيشه مدينة كالدار البيضاء آنذاك. حيث جمعية الوعي، التي كان يديرها أحمد صبري، والتي لعبت دورا كبيرا في تحسيس جمهور الدار البيضاء بأهمية البعد الثقافي والأدبي في الحياة اليومية، (كانت هذه الجمعية تنظم أنشطتها الثقافية بإحدى قاعات "لاكازا بلانكيز" المتواجدة بحديقة الجامعة العربية، والتي تسمى اليوم قاعة عبد الصمد الكنفاوي)، ناهيك عن الندوات والمحاضرات التي كانت تنظمها المنظمة الطلابية: الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (UNEM ) أيام عنفوانها بقاعة سينما الكواكب، حيث كانت تحضر مجموعة من الأسماء للإسهام في جو النقاش الحاد الذي كان دائرا في تلك الأثناء، مثل الأستاذ محمد عابد الجابري، الذي كان قد بدأ يبرز كإسم مفكر لافت إلى جانب إسهامه السياسي، وكذا طبيعة أفكاره ذات البعد القومي العربي- البعثي على وجه الخصوص).
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل إن حضور جانب من الثقافة السمعية البصرية، سواء في بعدها السينمائي أو التشكيلي أو المسرحي، شكل انعطافة أساسية في إثراء ثقافة الكاتب ومعرفته الأساسية، بل إن مجرد الانتباه إلى أهمية جانب كهذا في تلك الفترة، ليعتبر التفاتة ذكية إلى رافد آخر من روافد إغناء التجربة الإبداعية الشخصية.
من هنا نجد أن تأثير الصورة في مسيرة إدريس كان أمرا واضحا في كتاباته. وبالحديث عن السينما، فإننا نجد صاحبنا يعتبر نفسه ممنونا لأخيه صالح، الذي قاده في طفولته الأولى إلى متع تلك القاعات السحرية المظلمة، حيث يقول: "في هذا السياق، فأن أخي المرحوم صالح، الذي كان يمتهن النجارة الفنية، هو الذي بلاني بـ "السوليما"، حيث كان يأخذني معه، في طفولتي، إلى سينما "ريكس" الكائنة بنفس زقاق"جورا"، الذي يوجد به اليوم المركب الثقافي للمعاريف (مركب محمد زفزاف حاليا)، وكان آنذاك عبارة عن كنيسة تسمى "سان ماري. وبالقرب من سينما "ريكس" هذه، كانت توجد كذلك سينما "فاميليا" و"سينما مونديال" . وقد كان ثمن التذكرة آنذاك هو 30 فرنكا. فقط لا غير.
بازوليني وفيلليني وفيسكونتي...
من هنا، كان قد بدأ عشقي للسينما الأمريكية منها والفرنسية Noir et Blanc (الاسود والابيض) وكذا الإيطالية.. إلى غير ذلك من السينمات العالمية آنذاك ينمو بشكل مضطرد. لذلك، فحينما كبرت، وأصبح لي بيت مستقل بحي المعاريف وصرت ممسوسا بجمرة الكتابة، بقيت أتردد كثيرا على دور السينما بهذا الحي، حيث إن هذه القاعات كانت تبرمج حصة خاصة، أو ما يسمى بـ: Séance Spéciale وهي عبارة عن عرض خاص تباع تذكرته بدرهم واحد، ويبث من الساعة السادسة إلى الثامنة أو الثامنة والنصف مساء، وبعده مباشرة يتم بث العرض الرسمي أو العادي. وفي هذا العرض الخاص، كانت تعرض أفلام نوعية لا تعرض عادة ضمن سلسلة الأفلام التجارية، من ذلك مثلا: أفلام بازوليني، فيليني، فيسكونتي... إلخ. بمعنى أنها كانت أفلاما ثقافية أو"مثقفة" إذا صحت هذه التسمية .
أما بالنسبة للمسرح، فإن اهتمام ادريس الخوري بعروضه ورواده والباحثين في مجالاته، قد جاء فيما يسميه مع مرحلة النضج، وذلك من خلال تلك العلاقة الحميمية التي خلقها مع فضاء مقهى "لاكوميدي"، التي كانت تقابل بناية المسرح البلدي المأسوف على هدمه. هذا المقهى الذي كان يرتاده العديد من الفنانين المسرحيين الكبار، آنذاك، من أمثال: الطيب الصديقي ومصطفى التومي وآخرين.
يتبع
&حلقات يكتبها الشاعر المربي عزيز أزغاي
&