با ادريس الرائع في شوارع الرباط - تصوير صموئيل شمعون
وجاء اهتمام إدريس الخوري بمجال الفنون التشكيلية من خلال عمله مراسلا لجريدة "العلم" من مدينة الدار البيضاء، اذ تولد لديه اهتمام بهذا الحقل الإبداعي الثري، وكان ذلك من خلال قيامه بالتغطية والكتابة عن المعارض الفنية، التي كانت تقام آنذاك بقاعات العروض بالدار البيضاء. ومن تم، بدأ يخلق بعض العلاقات مع مجموعة من الرسامين المغاربة، الذين كانوا قد أصبحوا مكرسين في هذا المجال، من أمثال شبعة والمليحي ومحمد حميدي وغيرهم، هذا إضافة إلى تلك الصداقات الغنية التي كان يربطها مع بعض طلبة مدرسة الفنون الجميلة بالمدينة مثل رحول والحريري والغطاس والحسين ميلودي ...

وكما تمت الإشارة إلى ذلك بسرعة، في سياق الحديث عن حياة إدريس الباكرة، فقد كان " للحلقة "، بتنويعاتها الفرجوية المختلفة، جانب كبير من التأثير في " صنع " بعض خصوصية وتجدر وتميز كتاباته ، لا سيما الأدبية منها، و هو الأمر الذي كان غير متاح لغيره من الكتاب من أبناء جيله ومن الذين سبقوه، ممن كانت تغريهم " فترينة " المثقف العالِم المنفصل عن بساطة وطبيعة تربته الأولى. حيث يتحدث عن هذا الأمر قائلا: "كنت دائما معجبا بالأدب الشعبي، وبالأخص في جانبه الموسيقي، وكل ما يتعلق بالأنواع الموسيقية التي تشتهر بها بعض المناطق من المغرب مثل: العيطة، كناوة، الحوزي، المرساوي ... إلخ. لقد كنت معجبا بكل هذا. لماذا؟ لأنني كنت مدمنا على الحلْقة بشكل كبير في درب غلف.

التأثر بالفكاهيين الشعبيين
فمن المعلوم أن الدار البيضاء كانت تتوفر على فضاءات كثيرة للحلقة، منها: فضاء درب غلف وفضاء القريعة، وفضاء الجْمِيعة ثم فضاء ابن امسيك. وجميع " الحلايقية " المشهورين، آنذاك، كانوا يأتون " ليلعبوا " في هذه الفضاءات المتربة بالدار البيضاء. أما منطقة درب غلف، التي كنت أقطن فيها، فهي منطقة كانت مشهورة بشساعة خلاءاتها. ولذلك، كان في مساء كل يوم، ابتداء من الساعة الرابعة بعد الزوال، تمتلئ بالفكاهيين الكوميديين الحقيقيين الشعبيين البسيطين، مثل المرحوم ولد قَرَّضْ، مثل خْلِيْفة، مثل بوغَطّاط... ومجموعة من الفنانين الشعبيين الموسيقيين، مثل ذلك الثنائي، الذي وظفه الصديقي في مسرحياته، فأحدهم توفي ولم يبق سوى الشرقاوي على قيد الحياة. إذ كانا يجلسان متقابلين، ثم يشرعان في تبادل حوار مشترك فيما بينهما.

وسط هذه الفضاءات الساحرة، عشت وتأثرت، وظل هذا التأثير راسخا في ذاكرتي إلى اليوم. هذا، طبعا، بالإضافة إلى دور الإذاعة في فترة الحماية وبداية الاستقلال، حيث لعبت فرقة البشير السكيرج، مع بوشعيب البيضاوي، دورا كبيرا وأساسيا في هذا السياق، إذ كنت أستمع إلى إنتاجهما عبر الإذاعة كل يوم أحد، في إطار برنامج خاص.

الرباط وثقافة مجلة دعوة الحق
هكذا، إذن، تجمعت حصيلة ثقافتي الشعبية، التي ظلت في شكل رواسب تلاحقني. ولكن، حينما انتقلت إلى الرباط في سنة 1968 ، وهي المدينة المورسكية، حيث سيادة الثقافة العالمة، ثقافة الجامعة، ثقافة مجلة دعوة الحق... مع هذا النوع من الثقافة، اكتشفت باستغراب كبير كيف يتم النظر إلى الثقافة الشعبية نظرة قدحية " .
هكذا، إذن، بدأ ظهور إسم الكاتب "إدريس علال الخوري" على صفحات الجرائد والمجلات الوطنية، وذلك من خلال تلك القصص التي أصبح يعتبرها، فيما بعد، مجرد خواطر أدبية، تعكس تلك المرهقة الأدبية الأولى، التي كانت تقوده إلى تمثل التجارب الإبداعية المكرسة. وهكذا، إذن، كانت البداية بمجلتي " المشاهد "، التي كان يصدرها، آنذاك، شخص إسمه عبد الرحيم اللبار، حسب ما يتذكره الكاتب، وكذا مجلة " الأطلس "، والتي كان يديرها السيد عبد اللطيف جبرو. حيث سينتقل صاحبنا، بعد ذلك، إلى النشر بجريدة العلم، التي كانت وقتها وجهة لكل الأسماء التي أثبتت حضورها الإبداعي والفكري والثقافي على الصعيد الوطني.
&وبخصوص هذه البدايات، يتذكر إدريس شخصا يسمى الغرملي، والذي كان مسؤولا على الصفحة الأدبية بإحدى المجلتين السابقتي الذكر، حيث بعث له بمحاولة أدبية ليتلقى منه جوابا " محفزا " جاء على الصيغة الجافة التالية: " سيرْ تَقْرا ".

ادريس علال الخوري
وكما تمت الإشارة إلى ذلك من قبل، فقد كان أول إسم اختاره الكاتب ليوقع به كتاباته هو "إدريس علال الخوري" ، وهو الإسم الذي فيه نوع من الاحتفاء بالوالد المتوفى " سي علال " إلى جانب الإسم الشخصي " إدريس "، لكن ما كان جديدا في هذا الإسم هو لقب "الخوري " الذي لم يكن، فيما سيوضح الكاتب نفسه فيما بعد، لقبا مستساغا، و ذلك نظرا لحمولته أو دلالته غير الإسلامية، كما علق على ذلك بعض ممن لم يرقهم هذا اللقب. وفي ذلك يقول الكاتب: "إن إسمي الكامل هو " إدريس الكص"، وهذا الإسم مأخوذ من فيلم مصري قديم، كان من ضمن شخصياته شخصية تدعى "الكص". وبما أن أخي الحاج عبد القادر كان مولعا بالأفلام العربية الكلاسيكية، والفترة كانت هي فترة الحماية الفرنسية، حيث بداية تأسيس دفتر الحالة المدنية، فقد اختار للعائلة إسم " الكص "، محبة في شخصية الفيلم& المصري القديم.

رفضوا ان اكتب باسم الخوري لانه اسم مسيحي!
أما لقب " الخوري "، فقد اخترته انطلاقا من كتابات جبران خليل جبران، الذي كان ينتقد فيها كثيرا " الخوارنة " أو الرهبان المسيحيين. لكن، الأمر غير المعروف هو أنني كنت أوقع العديد من كتاباتي الأولى بإسم "إياد "، وهو إسم كان يعجبني هكذا. فقط لا غير. لكنني اخترت في الأخير إسم " الخوري "الذي جر علي الكثير من المتاعب، لاسيما من طرف المرحوم عبد المجيد بنجلون، صاحب " في الطفولة "، الذي قام بانتقادي علانية في جريدة العلم، ورفض أن أكتب بإسم "الخوري"، باعتباره إسما مسيحيا، في نفس الجريدة التي كان يكتب فيها هو، وأعني "العلم". وفي لحظة توتر، كنت سأتخلى عن هذا اللقب، إلا أن الصديق الكاتب عبد الجبار السحيمي كان له رأي آخر، حيث ألح علي للاحتفاظ به. لذلك، أعتبر أن للسحيمي الفضل في الإبقاء على لقب "الخوري"، الذي اشتهرت به كتاباتي، سواء الصحافية أو القصصية إلى يوم الناس هذا".

وبالنظر إلى كل بداية أدبية تسعى إلى إثبات وجودها، من خلال الاحتكاك بكل ما سبقها من تجارب إبداعية مكرسة ولافتة، فقد بدأ صاحبنا بنسج العديد من العلاقات الخاصة مع مجموعة من الأسماء السابقة عن جيله من الشعراء والقصاصين والروائيين، هذه العلاقات التي كان يكتفي منها بالتتبع والمواكبة والإنصات، دون التجرؤ على تجاوز تلك المسافة النفسية المتوهمة أحيانا، كلما تعلق الأمر بأسماء كانت واصلة آنذاك. بل إن صاحبنا كان يغبط بعض أصحاب تلك الأسماء، لما تنتجه من كتابة متميزة، ومن أولئك يذكر على سبيل المثال لا الحصر: الشقيقان المرحومان مصطفى المعداوي وأحمد المجاطي، علي الهواري، أحمد صبري، هذا الأخير الذي ما زال الخوري يتذكر جيدا كيف كان ينظر إلي نظرة دونية ، نظرا لكون والده كان ميسورا. لكنه لا يفتأ أن يضيف في حقه: " إلى جانب كون الشاعر أحمد صبري كان يتميز علينا، نحن أبناء جيله، بوضعه الاجتماعي والمادي أيضا، فقد كان متفتحا و ( سابَقْ وَقْتُو )، له حس وطني وثقافي كبيران، مزدوج اللسان (عربية - فرنسية).

السحيمي وكتابته الجريئة... &وذات طابع وجودي سجالي مضاد
إضافة إلى الأسماء السابقة، كان هناك أيضا محمد القطيب التناني، القصاص الأول في الدار البيضاء، حسب الكاتب، والذي كان متميزا في وقته. في تلك الفترة، يتذكر الخوري: "كانت جريدة "التحرير" تنشر بشكل يومي مقالات لكتاب مغاربة، من بينهم شخص يدعى عبد الوهاب مروان، الذي كان من خريجي الجامعة السورية، فقد كانت مقالاته تتميز بذلك الطابع القومي - البعثي. كما أتذكر جيدا، كذلك، العمود الأسبوعي الذي كان يداوم عليه الأستاذ عبد الجبار السحيمي بجريدة العلم، و الموسوم ب" الأيام والليالي "، حيث كانت كتابته جريئة وذات طابع وجودي سجالي مضاد لما كان عليه المجتمع المغربي آنذاك من أيام أخلاقية رديئة، وكان عبد الجبار يكاد أن يكون الصوت الوحيد، المنفلت من بين صحافيي جريدة العلم في تلك الفترة. وفي ذات السياق، دائما، أذكر صديقا لي إسمه إدريس بنجلون من فاس، وكانت له زاوية أسبوعية بنفس الجريدة هو الآخر، وكان كاتبا متميزا بالفعل ".

الكتاب الاثرياء والكتابة عة الفقراء
وفي المقابل، لقد كان ادريس الخوري يربأ بنفسه من تتبع ذلك النوع من الكتابات، التي كان يدبجها أولئك الكتاب "الأثرياء"، الذين كانوا يتمسحون بمعجم الكتابة المناضلة و" الشعبية " لاستجداء عطف " قاعدة القراء المسحوقين الآخذة في الاتساع.& حيث يوضح ذلك قائلا: "كنت دائما أبحث عن الكتابات المختلفة تماما عما هو سائد من كتابات متشابهة، أو مختلفة عن بعض تلك الكتابات "الشبعانة"، التي تتمسح بالعادي من اللغة المغرقة في النصيحة والأخلاق الفائضة عن الأخلاق! والحريصة على تماسك المفاهيم وحمايتها من الخلخلة ".
في هذه الفترة، كان الخوري، كما تمت الإشارة إلى ذلك من قبل، قد " تخرج " من مدرسة " الرشاد " الخاصة، على تلك الطريقة المعلومة. حيث بقي بعدها لمدة يحاول خلالها تدبير أمر حاجياته التي أصبحت، على ضوء " الوضع& الاعتباري " الذي أصبح يعيشه، متزايدة وبحاجة إلى مصدر مادي ثابت. (يتبع)
حلقات يكتبها الشاعر المغربي عزيز ازغاي
&