فيما أصبحت عملية روتينية سهلة بفضل أجهزة حديثة هى نتاج عقول مستنيرة، تلك هى عملية إزالة عتامات العيون التى خضعت لها مؤخرا وقد ظهرت نتائجها فى اليوم التالى رؤية صافية لعين كادت العتامات أن تغلقها، وقد جال بذهنى أنه لو أمكن إزالة عتامات العقول كما تزال عتامات العيون إذ تصاب العقول أيضا بعتامات تمنع نفاذ الضوء إلى الفكر إلا فى حزمة ضيقة فى اتجاه واحد تجعل الانسان أسيرا لانعكاسات هذا الاتجاه وحده لايرى غيره ولا يعتقد فى وجود اتجاهات أخرى لحزم ضوء متعددة تجعل رؤية الانسان بانوراما متكاملة رباعية الابعاد تجسم الواقع بوضوح فيرى الانسان الاشياء على حقيقتها ببصيرة رائقة تساعده فى إصدار الاحكام الصحيحة.

وربما تعتم بصيرة العيون بحكم السن لكن ذلك يعوضه انجلاء بصيرة العقول بحكم السن أيضا، إلا فى بشر تنغلق عقولهم وتزداد العتامات قتامة ومن ثم يختارون العيش خارج الزمن فهم يظنون أنه توقف عند آخر مشهد تمكنوا من رؤيته بوضوح ويتوقف ادراكهم عند حقبة معينة من التاريخ وعند بقعة معينة من الجغرافيا، ولأن رؤوسهم إلى خلف وأجسامهم الى الامام فهم دائموا الصدام مع الجميع نتيجة الرؤي المشوشة والفكر المنغلق،وهؤلاء أصبحوا آفة هذا الكوكب الذى ابتلى بهم لأنهم أغلقوا منافذ الضوء على انفسهم وعلى أتباعهم واشاعوا التعصب والعنصرية والتطرف والإرهاب والتخلف فى مناطق من المعمورة أصبحت بساكنيها عبئا على الانسانية،فلا منتج ولا إبداع ولا فكر فقط مخيمات وقتل وحروب وصراعات عرقية ومذهبية.

وربما يفقد الانسان بصره لكنه يستطيع العيش حياه طبيعية كباقى البشر الاسوياء، بل قد يتفوق عليهم اذا اكتشف ونمى الملكات الكامنة فى النفس البشرية وأهمها انفتاح العقل والايمان بقدرة الانسان على استجلاء الحقيقة مهما كانت كثافة الغيوم والعتامات، وطه حسين الذى أغلق القدر عيناه أمام حزم الضوء منذ صغره تمكن من تحويل اتجاه هذه الحزم إلى عقله فوصف ببصيرته مشاهد كانت الروعة ذاتها فى الدقة والتفاصيل الذى يعجز عنها عتاة المبصرين،ولا غرو أن يكون مثله الأعلى هو المتنبى رفيقه المبدع الذى عانى من مثل ما عاناه، وبيتهوفن الذى أغلقت على أذنيه حزم الصوت حولها ايضا الى حزم إبداع فى العقل فأنتج أعظم أعماله الموسيقية وهو أصم، وعلى النقيض هتلر وموسولينى وابن لادن ومعهم عتاة المتطرفين المتعصبين العنصريين من كل الاعراق فى كل الازمان هؤلاء أصابت العتامات عقولهم فلم يروا سوى عرقهم ودينهم ومذهبهم ولونهم وكرهوا الأخر وفرزوه وكفروه وقتلوه،وعندما تصاب العيون بالعتامات ربما يتطور الأمر إلى الإظلام التام رغم ذلك لاتكون نهاية الحياه أما اذا فقد الانسان عقله فتلك النهاية المؤلمة المأساوية فيتحول الانسان إلى مجرد كائن فقد مقوماته الاساسية تنسحب عنه أبعاد الزمان والمكان، وكما يصاب الناس بالعتامات العقلية تصاب الشعوب والأمم أيضا فتنغلق السياسات والرؤى وتنحصر فى دعاوى أوهام التمايز والتفوق بسبب الدين أو اللون أو العرق أو المذهب، وتظل العتامات تتمدد حتى تتبدد الرؤية تماما ومن ثم يكون السقوط مريعا سقط النازيون والفاشيون وسقط العثمانيون وسقط البلاشفة وسقط نابليون وصدام حسين والقذافى.

.وان كان أطباء العيون يتقاضون أجرا وتقديرا من مرضاهم نظير هذه الخدمة الجليلة ترى هل يكافئ أطباء العقول بنفس المكافأه ونحن هنا لانتحدث عن الاطباء البشريين الاكلينيكيين لكن نتحدث عن أطباء الفكر المثقفين والمبدعين المهمومين بمستقبل الانسان الذين يصفون الدواء لهذه العلة المستشرية فى مجتمعات هذه المنطقة،علة العقول التى أصابتها العتامات نعود فنتساءل هل يكافئ المبدعين والمفكرين والشعراء بمثل ما يكافئ أطباء العيون ؟ والحقيقة أن العكس هو الصحيح فهم مطاردون بتهمة إعمال العقل وتوسعة منافذ الضوء إلى حجراته المظلمة فذاك خطرا داهما على أنظمة الحكم فى هذه المجتمعات.

يستوجب اعتقال هؤلاء وابتداع تهم وتلفيقها لهم بدءا من التشجيع على الانحلال وحتى العيب فى الذات الالهية وماحدث مع جاليليو وطه حسين ونجيب محفوظ وأبناء عبد الرازق ونصر أبو زيد وغيرهم كثيرين دخلوا المعتقلات واغتيلوا لالسبب سوى أنهم وصفوا الدواء لداء خطير كتبوا الشعر والرواية والمقال والبحث والمسرحية وكلها أدوية ناجعة جربتها أمم ونهضت من كبواتها بعد عصور من المعاناه من هذا الداء اللعين.

وماأجمل أن يكون الانسان حرا جسدا وعقلا فتلك هى الفطرة التى تمكن الانسان من الابداع والابتكار فالانسان الذى ابتدع هذه الاجهزة التى جعلت علاج العيون وكل أجهزة الجسم الاخرى بهذا اليسر وهذه النتائج هذا هو الانسان الذى تدخل حزم الضوء إلى كل عقله فتستنير خلايا العقل فشكرا لآطباء العيون اللذين وصفوا لى دواء انجلاء البصر وشكرا لآطباء العقول الذين وصفوا لى دواء انجلاء البصيرة.شكرا لطه حسين والعقاد والمازنى شكرا لشكسبير وتشيكوف وجوجول شكرا لموسيقيين وشعراء وفنانين ورسامين شكرا كل من ساهم فى ادخال ولو بصيص شعاع ضوء الى عقلى الذى أرى به الأشياء.