نحن في وقت يحتفي فيه العالم أجمع باليوم العالمي للطفل ويشير فيه الكل لحقوقه المهضومة في مجتمعاتنا سيما بالسودان بل وفي كل المجتمعات الاسلامية والعربية والأفريقية على الإطلاق. نرى المنظمات العالمية والمجتمعية في العالم المتقدم فكريّاً وحقوقيّاً تقيم الندوات والورش المتعلقة بالإرشاد عن حقوق الطفل سيما ضرورة منع زواج القاصرات الذي أصبح حقيقة مرّة نراها ونصمت، بل ونؤيدها بحضور احتفالات مراسم الزواج الذي يطلقون عليه لفظ quot;شرعيquot; وما هو من الشرعية في شيء. من ثمّة تأتينا في نفس الزمن الطامة الكبرى من هيئة علماء السودان التي تقرّ بزواج الطفلة وتدعو بتشجيعه وعدم منعه كما ذكر البروفسير محمد عثمان صالح في الندوة التي نظمتها وزارة الإرشاد والأوقاف بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكان عن (مخاطر زواج الطفلة). لقد احتدم النقاش في هذه الندوة بين كتلتين مختلفتين، الموالية والمعارضة لهذه الجريمة. بينما أقر مختصون وبعض رجال الدين المسيحي والإسلامي عن رفضهم التام لزواج الطفلة، أيّده المسؤول الأول بهيئة علماء السودان مبرراً عدم رفضه هذا باعتبار أن زيجة الطفلة تحقق منافع كثيرة ويقول quot;إن الإسلام لا يمنع زواج الصغيرة وأنه مباحquot;. ويضف البروفسير صالح قائلا: quot;أن الإسلام يحث الشباب على الزواج لصونه من الانحراف ومن مخاطر تنجم عن العزوبية وتحقيقاً للسعادة وحفظا للنسل.quot; - هل أثبتت أي دراسات حديثة أن المتزوجون معصومون من الخطأ؟ - أي سعادة تجنيها الطفلة بنت التاسعة أو العاشرة وحتى بنت السابعة عشر من الدخول في عصمة شيخ في سن جدها؟ - أهل تتوافق معطيات البروفسير التي قدمها والواقع البائس الذي نعيشه؟ - أهل انعدمت فئة النساء اللائي بلغن سن الزواج لنلجأ quot;لإباحيةquot; زواج الطفلة؟ - أهل من الحكمة أن نطلق على هذا العرف البائس لفظ quot;زواجquot;، أم أنه quot;اعتداء جنسيquot; مرخص باسم الدين؟ - كيف وازن البروفسير بين المخاطر الجسدية والنفسية والاجتماعية التي تجنيها الطفلة وبين المنافع التي تحلل زيجتها؟ - دعنا نسلم أن في عهد غابر كانت هذه الزيجة عرف سائد - وكلنا علم بأن الطفل لم يكن أبداً له في العهد الغابر أدنى حق -، لكن هل يوافق هذا الطرح المنطق السليم ومعطيات العصر الذي نعيش فيه؟ أهل ينبغي علينا إذن أن نوصد باب الاجتهاد والتدبر في مسائل العصر ونلجأ لأعراف بالية تخالف بشدة منطق العقل وسنة المصطفى (ص) السمحة! - أليس هذا انتهاج لطريقة عصرية لوأد البنات كما كانت عليه في الجاهلية إذا غيرنا المضامين؟ أنني لأتحير في طريقة فهم هيئة علماء السودان للدين (المعاملة) وكما لتجاهلهم قضية مدونة الأسرة وقوانين الأحوال الشخصية والحكمة والفطرة في قياس قضايا حساسة كتلك التي تتعلق بزواج القاصرات. كيف يقولون أن النبي تزوج السيدة عائشة رضي الله عنها وهي في سن السادسة وبنى عليها (أي دخل بها) وهي بنت التاسعة. فالسؤال الذي طرحة رئيس مركز الدراسات الإسلامية بمؤسسة اليوم السابع إسلام بحيري هو: هل رواية البخاري خاطئة ومرتابة السند؟ لأنها في اعتقاده (quot;تخالف الشرع القويم والعقل المتدبر والأحاديث الصحيحة والعرف والذوق والعادة كما تخالف بشدة قصوى الخط الزمني لأحداث البعثة النبويةquot;)؟ - كيف يمكن لطفلة في سن الأساس الزواج من رجل يكبرها بعشرات السنين؟ يا سادتي من له طفلة في هذا العمر فهو على علم بخطورة هذه الفتوى. من خلال جولة محاضرات قمت بها في مراكز ذوي الاحتياجات الخاصة أتتني ناشطة معروفة بعملها في مجال حقوق الطفل وسردت عليّ قصة بنت شيخ زوجها أبوها الشيخ لحواره بغرض السترة. وحسب أقوال هذه الناشطة (ماما س) تفاجأت الطفلة (البالغة من العمر ١١ سنة) في ليلة دخلتها بوجود ثلاث من الرجال قاموا بتعقيلها (كالبهيمة) إلى أن قضى الزوج وطرا منها وتركها لآلامها وحيدة. انتهت قصة هذه الطفلة بإصابتها بحالة انهيار عصبي وتبلم تام لعدة أشهر أثار دهشة أبيها الشيخ فلجأ لمركز الأسرة بالقرية التي تقوم عليه (ماما س) لإدراك سبب مرضها النفسي وسبل علاجها منه. بعد محاولات عدة عرفت الناشطة عن الحادثة وتمكنت بعد لأي من اقناع الطفلة بتبليغ الشرطة ورفع دعوى على الأب. لكن عندما أتت الشرطة أبرز الأب قسيمة الزواج وقال: quot;ده راجلها ويسوي فيها الشي الدايروquot;. فلم تستطع الشرطة تجريم الأب ولا أن تحفظ للطفلة حقها في محاكمة الجاني ولا في حفظ حقوقها أمام القانون. فأين نحن يا سادتي من حقوق الطفل؟ لن أنسى ذاك اليوم الذي أردت فيه تقديم قصيدة تثير قصة هذه الطفلة بقناة النيل الأزرق فما كان من المنتجة إلا أن رفضت بعرضها في برنامج (مساء جديد) معللة أن النبي تزوج السيدة عائشة في سن السادسة وأن الشرع لا يمنع زيجة الطفلة. ثم عقبت: quot;الموضوع ده حيدخلنا في مشاكل كتيرة جداً مع الحكومة ورجال الدينquot;. من ناحية أخرى قرأت من بين عدد من الاجتهادات تلك للمفكر محمد أركون واسلام بحيري والتي عملا فيها عملا دؤوبا ناشدين تجديد مناهج الفكر الإسلامية. تمثل دراساتهما هذه نواة لمشروع هام وواسع باسم quot;نقد الفكر الإسلامي والإسلام الآخرquot;. يضع الباحثان هنا أسسا واضحة لمحاولة تنقيح الفكر الإسلامي من الشوائب التي علقت به وسبل قويمة للتعامل الحرّ المباشر مع النصوص. كما يقف على تنقيح كتب السنة النبوية من الروايات التي علقت بها ودست في متنها لتعكس عن عمد كثير من التصورات المشوهة والضعيفة عن العهد النبوي. وهذا التنقيح لا يستثني من الكتب التي وصلت في وعينا مرحلة القداسة المطلقة كصحيحي البخاري ومسلم لأنهما وبالمنطق من صنع ابن آدم الذي يخطئ تارة ويصيب تارة أخرى. يقول بحيري: (الإسلام ليس حكرا على الفقهاء والمحدثين ولا على زمانهم فقط. علينا وبكل علمية وبحث جاد أن نستدرك على كتب الحديث والفقه والسيرة والتفسير، وأن ننقدها ونرفض الكثير مما جاء بها من أوهام وخرافات لا تنتهي، فهي، أي الكتب، محض تراث بشري، لا ينبغي أن يصبغ بالقدسية أو الإلاهية أبدا، فنحن وأهل التراث في البشرية على درجة سواء، لا يفضل أحدنا الآخر، فصواب أعمالهم لأنفسهم والأخطاء تقع علينا). من جهة أخرى قمت بدراسة لسان العرب الذي يعتبر من الأسفار الأساسيّة في كثير من كليات اللغة العربية بل ويعتبر من مقدسات اللغة ووقفت على شطحات وخرافات عدّة وضعها ابن منظور في لسان العرب، صغتها في بحث معجمي يمكن الرجوع إليه. فكتب السلف في كل المجالات العلمية بحاجة لدراسة معمقة بالنقد العلمي البناء. وكما علمونا في المهد قولة: ليس الفتى من يقول كان أبي ولكن الفتي من يقول هانذا. إن زواج الطفلة صار قضية خطرة كانت من قبل تحاط بالكتمان كما استعرضت د. رؤى الخالدي الأستاذة بجامعة الأحفاد في هذه الندوة. فأفادت الدكتورة أن quot;٣٨٪ من النساء في السودان تزوجن في سن مبكرة حسب مسح ٢٠١٠ وفي وقت لم يكتمل فيه نمو الفتاة الجسدي والنفسي والاجتماعي لمواجهة الحياة الزوجيةquot;. واستعرضت في ورقتها (حول الصحة الإنجابية وزواج الطفلة) خطورة هذا الزواج صحيّاً وتعرضها لأمراض الناسور والوفاة في كثير من الحالات، إذ أن الرحم لم يبلغ بعد درجة النضوج التام لاستقبال حمل الجنين. كما وقدمت زميلتها د. عطيات مصطفى نظرة قانونية حول زواج الطفلة وأكدت أن الشريعة الإسلامية تمنع العنف ضد الطفلة وتحفظ حقوقها كانسان في المجتمع كما أن قانون الأحوال الشخصية توجد به مادة تشير إلى زواج الطفلة وأن المادة ٤١ خاصة بسن التكليف والتمييز. ودعت لمراجعة هذا القانون وتوعية المجتمع السوداني بخطورة هذا العرف السائد ونادت بضرورة التنسيق بين الجهات المختصة لخلق رأي واحد وخطاب موحّد في هذا الخصوص. بعد الأسلمة التي شهدها السودان في الحقبة الماضية ما فتأت زيجات القاصرات في الازدياد. فبدعوى التقاليد والشرع وتحايلا على القانون تقام أعراس جماعية بquot;الفاتحةquot; لطفلات في سن العبث واللعب. كما تولدت ظواهر جديدة في كل أنحاء السودان بسبب البؤس والفاقة التي تشهدها هذه الحقبة تحتم على الأسر رهن وهبة بناتها القاصرات مقابل بضع جنيهات يقبضها الأب أو الأم بعد خروج الأب من المنزل أو بعد زواجه من أخرى. يا سادتي لقد حان الوقت أن ننتفض على الأعراف السالبة والراسخة في ذاكرة ووعي المجتمع والقائلة: quot;ضل راجل ولا ضل حيطةquot; لأنها تحسب في اعتقادها الشعبي أن الشرف هو أن تحظى الطفلة بخطيب والعار أن تكون quot;بايرةquot; وقطارها قد فات. ففي بعض المناطق يعتقد أرباب الأسر أن الطلاق أهون من أن تتجاوز البنت سن السادسة عشر دون خطوبة. وتلك حقيقة خطرة تعدت حدود بعيدة على أن نطلق عليها لفظ (ظاهرة) وفي ذلك اشارت كما أسلفت د. رؤى بأن نسبة ٣٨٪ من الزيجات التي تتم تحدث لطفلات قاصرات لم يبلغن سن الرشد. في اعتقادي ليس الحل الأمثل في تجريم زواج الطفلة بل الأمر يتطلب تغييراً جذرياً من صميم المجتمع العربي عموما عبر نشاط جمعيات المجتمع المدني. كما وأن التوعية والدراسة العلمية في كليات الشريعة والقانون وفي كليات الدراسات الإسلامية عامل هام في تغيير المفاهيم الخاطئة وفي ادراك العلم فحصا وتنقيبا وليس نقلا وتكراراً كما هي الحال في مؤسسات البلد. ألا رحم الله الخليل بن أحمد الفراهيدي حينما قال: الرجال أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذاك العالم فاسألوه؛ ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذاك الناسي فذكروه؛ ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذاك الجاهل فعلموه؛ ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذاك الجاهل فاجتنبوه.
- آخر تحديث :
التعليقات