مقدما، ليست مهمة هذا المقال دينية تتطفل على الدين وأحكامه ونواهيه، بل هو مقال سياسي خالص يقتصر الحديث فيه على ما يفعله معممون تصدروا لإدارة هذا الدين فخالفوا روحه وخضَّبوه بدماء أبنائه وهم مسلمون. وما جرى ويجري في عالمنا الإسلامي، هذه الأيام، بأوامر أئمة ودعاة ومرشدين كبار، من مذابح ومجازر، باسم الله ورسوله وآله وصحبه، يجعل المرء يتوقف طويلا ليسأل عن طريق الخلاص وعن وعده المكتوب.
إنهم جعلوا الدين بنادق وخنادق ومشانق وحرائق لتحقيق أغرض دنيوية خالصة لا علاقة لها بالآخرة، فألحقوا، نتيجة ذلك، بالذات المسلمة حروقا عميقة وتشوهات، خِلقية وخُلقية، وعاهات مستديمة يصعب شفاؤها بغير مزيد من الدماء والدموع.
وليس مهما هنا أن نحدد تاريخ ولادة الإرهاب المسلم، من يوم اغتيال الخليفة عمر بن الخطاب ثم عثمان وعلي والحسين ومن تبعهم من المغدورين الذين قضوا غيلة، بحقٍ أو بباطلٍ، على السواء. ولكن المهم أن نعترف بأن تراثنا الموثق والمصدق يقول إننا أمة متمرسة في فنون الذبح بالخناجر والسواطير وسكاكين المطبخ والسموم المدسوسة في الشراب والطعام، باسم خدمة الإسلام وحمايته من كل سوء. وما زالت هي الأكثر من غيرها من الأمم تمسكا بالجهاد (المسلح) وتقديسا له باعتباره مهمة ربانية تستحق أن تشُنَ في سبيلها كلَّ أنواع الحملات الجهادية التي لا تُكفر من يعارضها فقط، بل تهدُر دمه وتأمر بغزو دياره، كذلك.
ولا يهم هنا أيضا أن نحدد هوية السابق، هل هو الإرهاب (المذهبي)، أم هو القومي العربي أم الصفوي أم العثماني أم البربري أم سواه. وكل ما ينبغي الإقرار به هو أن جميع ما عرفناه من هذا الإرهاب، بكل درجاته وأنواعه وألوانه وجنسياته المتعددة، سواء كان يؤدي وظيفته بأدوات الذبح اليدوي أم بأساليب القتل الفكري والخلقي والروحي، هو إرهاب مسلم أصيل ومصنوع محليا وغير مستورد من خارج الحدود، وحواضنُه ليست مسلمة فقط، بل متشددة ومتعصبة له ومتمسكة بهِ بلا حدود.
وكان أغلبُ المرابع التي ولد فيها الإرهاب المسلم وكبر وترعرع هي مدارسَ العلم الديني والمساجد والحسينيات، وعلى أيدي وعاظ نزع الله من نفوسهم الرحمة والغيرة والشفقة، وسلطهم على العالمين.
ومن كل زراع العنف الديني لم ينجح ولم يتسيد ويتفرد ويتمدد إلا أكثرُهم موهبة في مخاطبة العقول الساذجة، واستثارة المشاعر الغافية، وأشدُهم قسوة وشدة، وأعنفهم مشاكسة ومكاسرة. ومن الطبيعي أن يتخرج (مقلدوهم) وهم يحملون في قلوبهم وأرواحهم، بأمانة وحماس، كل ما زرعه فيها الأئمة الأولياء من النوازع والمعارف والمفاهيم والعقائد المفترسة المتعطشة للدم.
لا يعرف أحدهم غير فكره، ولا يسمع غير صوته، ولا يحتمل غير ما حبس فيه نفسَه من قناعات، حتى بات من الصعب والمستحيل أن يحتكم ذات مرة إلى مراجعة عقلانية هادئة محايدة لمبادئه وأفكاره وسلوكه ليكتشف أنه قد يكون، في بعضها على الأقل، خارجا على الدين الحقيقي، وقائما بتحقيق أهداف نبيلة بأدوات غير نبيلة.
وقد يجادل البعض بأن تاريخنا القديم والحديث، معا، شهد موجاتِ عنفٍ عابرةً قامت بها أحزاب وقوى غير دينية، في دول عربية وإسلامية عديدة. وهذا صحيح. ولكن الحقيقة تقول إن أغلب فرسانها، وهم علمانيون وديمقراطيون، ولدوا في بيوت متدينة مُدججة بالخرافة وبطقوس وتقاليد دينية قبلية مختلطة يصعب الخلاص منها بسهولة. بعبارة أخرى. إنهم حملوا القبيلة والمسجد والحسينية في أرواحهم فجعلوا أحزابهم قبائل ومذاهب من نوع جديد.
وفي عصرنا الحديث يمكن القول إن أكثر إرهاب منظم ومؤسس ومتجذر ومثابر وعنيد وقادر على عبور القارات كان إرهاب الجماعات (السنية) السلفية التكفيرية الذي أنشأه أسامة بن لادن، والذي بدأ تكوينه تحت ظروف الاحتلال الروسي لأفغانستان. وقد ساعدت على تعظيم دوره حكومات عربية وإسلامية مهمة وقوية وغنية دفعتها إلى ذلك ظروف الحرب الباردة بين معسكر الاتحاد السوفيتي وأمريكا وأوربا بشكل خاص.
ولا يُنكر أيضا أن إرهاب الدولة العبرية وسلوكها العدواني اللاأخلاقي واللاإنساني والذي اتخذ في كثير من حالاته شكل التطهير العنصري المنظم كانا وقودا نافذا يؤجج في نفوس الملايين المقهورة من العرب والمسلمين نار الكراهية المتفجرة لكل من يساعد ويتستر ويتخاذل في إدانة الإرهاب الإسرائيلي، ناهيك عن معاقبته، ويتشدد فقط في محاربة الإسلامي، حتى لو كان في حالة دفاع عن النفس مبرر ومشروع.
ثم جاء دخول الإمام الخميني إلى عالم السياسة وامتلاكُه قوة الدولة الإيرانية وثرواتها الطائلة ليكون عراب الإرهاب الشيعي الأكبر والأكثر تنظيما وتماسكا من سابقيه. وكان الظن أنه قام لكي يعادل أو يقاوم إرهاب القاعدة (الديني) السني، لكن طبيعة الخامة الواحدة وتلاقي المصالح التكتيكية بين القاعدة والدولة (الدينية) الإيرانية حكم عليهما بالتعاون والتفاهم وتنسيق العمليات بين المجاهدين في كثير من الحالات.
وها نحن اليوم أمام واقع جديد مختلف تماما عن كل ما عرفناه من ألوان العمل الإرهابي، ومتفوق على كل ما عداه، لأنه لم يكتف بأسلحة (القاعدة) المؤسسة على فكرة محاربة الغرب الصهيوني الاستعماري ووكلائه وعملائه، بل أضاف إليها سلاحا آخر أكثر سحرا وأشد قدرة على تخدير المجاميع الجاهلة، حين ألبس فكرته لبوس العزة المذهبية الجريحة، ليس لمواجهة الغرب الاستكباري وحده، بل لدحر خصوم طائفته التاريخيين الذين تسيدوا على العالم الإسلامي عشرات القرون.
ثم أعاد الخميني وجيوشُ وعاظه المخلصين إنتاج مجزرة كربلاء بشكل دراماتيكي فريد، وأغرقها بالمبالغات والطقوس المبتكرة المتناهية في التهويل والتعويل والتجهيل، وحرص، في الوقت نفسه، على افتعال المناسبات اليومية والأسبوعية والشهرية والسنوية المتكررة لضمان تواصل استذكارها لئلا يمنح المواطن الشيعي المنجذب لولاية الفقيه فسحة استراحة واسترخاء قد تقود إلى برود همته عن طلب الثار، ولإبقاء الذات الشيعية الجديدة غارقة في تأنيب الضمير وتعذيب الجسد والإحساس بالدونية، وساعية دائما إلى الموت وليس إلى الحياة.
لقد نقل الحرب من حدود الأمم مع أعدائها إلى داخل الأمة نفسها بين أبنائها. فحروب الطوائف اليوم دخلت كل منزل، في كل حارة وقرية ومدينة في البلد الواحد والملة الواحدة. ولو كانت لدى الخميني، أو لدى وريثه خامنئي من بعده، نظرة مستقبلية، في أدنى مستوياتها، لأدرك بسهولة أن هذا النوع من الحروب لا ينتهي ولا ينتصر، وأن ما تتكلفه الطائفة المقابلة من دموع وترويع وتجويع لابد أن يكلف طائفته مثلها، وربما أكثر بكثير.
لكنها، والحق يقال، فكرة جهنمية وعبقرية رائدة تفوقت كثيرا وجوهريا وعملياتيا على ما سبقها من حركات إرهابية إسلامية سادت وبادت في العصور الإسلامية المتقدمة. فهي، بما لها من قوة وجدة وسعة وتكوين، لن يقوى على صدها اليوم سوى عمل من نوعها يقابلها بنفس القوة الروحية والفقهية والثقافية والمذهبية والمالية والعسكرية والسياسية المؤهلة لمهمة ثقيلة من هذا النوع.
هل رأيتم كيف جعل الولي الفقيه طوابير (المجاهدين) تتقاطر، متطوعة، زرافات ووحدانا، خفافا وثقالا، من اليمن والعراق ولبنان وأفغانستان وبلاد أخرى بعيدة، لتحرير القصير من ورثة يزيد، وللثأر لمذبحة كربلاء، ولرفع راية الحسين، ونيل الشهادة؟
كمن يسوق نياما عبر بهم حدودا وسدودا لقتال مسلمين يُجلون الحسين ولم يمَسوا قبر السيدة زينب بسوء. تحولت الأمة لديه إلى جموع بلا قيمة. ولا بأس إذا مات ألف هنا أو عشرة آلاف هناك، فهم الذين خرجوا في طلب الشهادة، طائعين، وبأيديهم مفاتيحُ الجنة ونعيمها المقيم.
ألم تسمعوا زغاريد نساء الضاحية الجنوبية ببيروت وإطلاق رصاص الفرح بغزارة وتوزيع الحلويات؟ هل إلى هذا الحد تغيرت الموازين وتشابكت المقاييس، حتى صار الموت فرحا، والفرح موتا، وإن كان مؤجلا إلى حين؟
وفي حرب الخميني مع صدام قتلَ من العراقيين، وأغلبُهم عربٌ شيعة، مئات الآلاف، ثم احتفلت حكومة حزب الدعوة، مؤخرا، بيوم وفاته، ومجدت فكره العظيم.
وهنا تجيء الدعوة المتصاعدة اليوم بين رجال دين الطائفة السنية وقبائلها وسياسييها المتشددين إلى إجازة الإرهاب المقابل لإرهاب الدولة الإيرانية وأذرعها الشيعية المنتشرة في أنحاء عديدة من العالم الإسلامي، لتجعل حياة الأمة كلها مجزرة عائمة لا بقاء فيها لمتدين معتدل، ولا لمفكر حر، ولا لعاقل ومحايد وبريء.
- آخر تحديث :
التعليقات