لكل قصة أبطالها، هكذا يقول المثل، فكم قصة عاشها العراق كان بطلها الرئيس العراقي الراحل صدام حسين؟ سؤال ما أردت طرحة لإثارة موضوع ربما هو في ذمة التاريخ، أو أن طرحه لايجلب منفعة بل العكس ربما يثير الضغينة بين أبناء البلد الواحد في الوقت الذي نحن بحاجة فيه لرص الصف لمواجهة خطر الحرب الطائفية، فالموقف تجاه الرئيس السابق يقسم أبناء الوطن الواحد أكثر مما يجمعهم. من هنا، سوف لن أجيب عن هذا السؤال بشكل صريح ولكني سأتاخذ هذا العنوان الذي أعترف بأنه إستفزازي لطرح فكرة البطل ومعناها في الثقافة الشعبية، صفاتها ودلالاتها الرمزية وما تترك من أثر في الذاكرة الجمعية، وذلك لتحفيز سؤال إعادة تقيم ثقافتنا من خلال مراجعة رموزها وأبطالها!
سأطرح سؤالا ً من نوع ثان، لماذا يختلف أثنان، أو مجموعتان أو حتى شعبان على شخصية معينة فتصفها مجموعة بالبطلة بينما تصفها مجموعة أخرى بالمجرمة؟ ومثل صدام واضح وصريح، ففي اللحظة التي أكتسبت تلك الشخصية صفة البطولة في جزء كبير من العراق وصفها الجزء الأكبر من المجتمع بالمجرمة. ليس هذا فحسب، بل أن شخصية صدام حسين البطل مازالت حية في ذاكرة الكثير من المجتمعات العربية في الوقت الذي تصف تلك المجتمعات طواغيتها بالمجرمين وهم الذين لم يفعلوا عشر مافعل صدام حسين بشعبه. هل نحن أمام ازدواجية في المعايير أم حول فكري وثقافي أم هي مجرد مفارقة تاريخية!
علينا أن نعرف أن لكل مجتمع ذاكرة جمعية، فهي الخزين المعنوي الذي يزود ذلك المجتمع بالهوية الجمعية إذ تتشكل من خلال ذلك القيمة المعنوية لوجود ذلك المجتمع في تلك اللحظة التاريخية. علينا أن نعرف أيضا ً بأن ذلك المجتمع بذاكرته وهويته البارزة يتكون من مجموعة من الثقافات والإثنيات والطوائف المختلفة والتي تمتلك كل منها ذاكرة وهوية جمعيتان خاصتان بها. فأحيانا تتماهى تلك الثقافات والإثنيات والطوائف في ذكرة جمعية شبه متجانسة فتشكل هوية وطنية واحدة لها ذاكرة جمعية شبه مشتركة، وأحيانا أخرى لاتتجانس فتختفي تلك الهوية الواحدة لتظهر هويات فرعية مختلفة تتصارع فيما بينها لتشغل حيزا ً مكانيا ً بارزا ً لتقوي به ذاكرتها وهويتها الجمعيتنان على حساب الهوية الوطنية.
إذن، وراء كل هوية جمعية ذاكرة جمعية تحكي قصص سردية متواصلة لشعب أو مجتمع معين. تتماهي تلك القصص المختلفة بطريقة تاريخية تسلسلية فتعكس مجموع الذاكرة الفردية وتعيد صياغتها على شكل ذاكرة شعبية تتناقلها الأجيال جيل بعد جيل. فلا نتعلم في المدارس إلا النزر اليسير من تلك القصص لكن آبائنا وأجدادنا يحكوها لنا لتعطينا المعنى الحقيقي لوجودنا وماهي قيمتنا بين باقي الشعوب. ربما تكون تلك القصص غير حقيقية وعبارة عن أساطير أو وقائع متوهمة أو محرفة عن الحقيقة ولكنها مهمة جدا ً لكل مجتمع وشعب ومجموعة فهي التي تعطي لذلك الشعب أمتداده وسبب بقائه وإستمراره في الوجود. علينا أن نعلم أن في كل قصة أبطال ورواة، جناة وضحايا، وفيها البارزون والمهمشون وفيها أيضا ً ابطال وهميون ومصطنعون. السؤال هو: ماذا تحكي تلك القصص السردية التي تتناقلها الأجيال جيل بعد جيل؟
نعم، أن تلك القصص المتناقلة تحكي قصة كل شعب، كيف وجد ومن أين أتى، كيف أستوطن تلك الأرض وكيف بقي فيها على قيد الحياة، تحكي قصة الإستقلال والثورة على المحتل، تحكي قصص المؤامرات والإنقلابات والخيانات السياسية، تحكي قصص المجاعات والقحط والفيضانات، تحكي قصص الإنتصارات والاحباطات، التعايش السلمي والتسامح أو التهميش لفئات اجتماعية معنة. أن كل ذلك الخزين يحمله الأفراد على شكل ثقافة تعلمهم طريقة التفكير وماهو صح وماهو خطأ في تقييم الأمور.
لتلك الثقافة سماتها وصفاتها ورموزها التي تعبر عن نفسها من خلال سلوكيات أبنائها أو ذوقها الفني والأدبي. فالنصب والتماثيل والبناء المعماري يحكي قصة ذوق ثقافة ما وأهتمامها بالقيم الجمالية. أن لكل ثقافة وذاكرة جمعية بطل له صفات يعبر عن قيم تلك الثقافة. فالبطل هو رمز لمجتمع معين يعبر عنها وهي بدورها تقدمه وكأنه الأفضل والأحسن والأسمى، فهو المثل الأعلى بكلمات أخرى. ولكن، عندما تجد هوية مشتتة لمجتمع ما فهذا يعني بأن هناك أكثر من ذاكرة وثقافة شعبية تتصارع لشغل الحيز المكاني وهو تراب الوطن. وفي هذه الحالة سيتم التعبير عن صفة البطل بشكل مختلف إذ يصبح بطل ما لمجموعة مجرما ً أو جبانا ً لمجموعة أخرى. بل أكثر من ذلك، فالثقافات والمجموعات والإثنيات المتصارعة التي لم تنسجم في بناء هوية جمعية واحدة تخلق أبطالا ً بالضد من أعدائها ومنافسيها، وعلى الأغلب تخلق أبطالاً وهميين نرى صورهم على وجه القمر. ومن سخرية القدر، أن تلك الثقافات المتناحرة تتقاسم الشخصيات التاريخية لتجعل منهم أبطالا ً مفترضين، فالحجاج بن يوسف الثقفي تراه مجرما ً عند مجموعة وبطلا ً تاريخيا ً عند أخرى.
إذن، وببساطة شديدة وبلا تكلف، أبطالنا الذين نعرفهم ونقدمهم لغيرنا يعبرون عن ثقافتنا وطريقة تفكيرنا. فعندما نكون طائفيين يكون أبطالنا طائفيون أيضا ً، وإن كانوا مجرمين، وعندما نكون وطنيين يكون أبطالنا كذلك، فنغفر لهم حينها خطاياهم. أن أبطالنا على شاكلتنا إذ يعبرون عن ذوقنا في من هو مثلنا الأعلى، فإن كنا متطرفين فسيكون أحد شيوخ الدين الذي يقتل بإسم الدين بطلنا، وإن كنا متسامحين فسيكون صانع السلام بطلنا، وإن كنا ماضويون فسنلجأ للتاريخ نبحث عن أبطالنا، وإن كنا حداثويون فسوف نبحث من يصنع لنا مستقبلا ً فنتخذه بطلا ً. فلكل مجتمع بطله الذي يعبر عن ثقافته. ولكن، حتى تلك الثقافة تتغير فتتغير بذلك أبطالها. فالثقافة أشبه بالكائن الحي القابل للتطور، حيث تموت وتحيا وتمر بالأزمات. فعندما تمر ثقافة ما بأزمة حقيقية، تراوما، يفكر أبنائها ويعيدون طرح سؤال الهوية: من نحن ولماذا نشعر بالإحباط؟ ماهي رموزنا ومن هم أبطالنا الحقيقيون؟ وهل صنعنا لأنفسنا أبطال وهميون نتخذهم قدوة؟ تلك الأسئلة المنسية التي لانفكر فيها عادة في حياتنا اليومية ونقبلها كالمسلمات تعيد طرح نفسها في الأزمات. فكم أزمة مر بها المجتمع العراقي وثقافته، لكنه لازال يفكر بنفس الطريقة القديمة. كم قنبلة ومفخخة أنفجرت بقربه لكنها مع الأسف لم تعد له وعيه ليعيد طرح سؤال الهوية ويعيد تقييم ثقافته بما فيها أبطاله الوهميون والحقيقيون.
فثقافتنا العربية التي تحترم القوي وتحتكر الضعيف، التي تعتبر الذكورة رمزا ً للقوة والعنفوان فتحتقر المرأة والصغير، التي تعتمد على الغلبة في التنافس مع الآخرين وبأي ثمن، التي تعشق العبودية وتمجد الجلاد إذ تبحث عن قائد ومخلص يرفع عنها همومها وإن كان دكتاتورا ً أو مجرما ً، بالتأكيد سيكون أبطال تلك الثقافة على شاكلتها. فالثقافات التقليدية تبحث عن رموزها وأبطالها في الماضي السحيق وترى مدى ما يتطابق من شخصيات حاضرة مع تلك الرموز الماضوية. فالقائد الفذ الفلاني يشبه البطل الفلاني الذي حرر القدس، والشيخ الفلاني يشبه الإمام الفلاني قبل ألف سنة ونيف. أما المستقبل ففي ذمة التاريخ عند أولئك الذين يبحثون في الماضي. من هنا، نحن نبحث دوما ً عن أبطال تاريخيين ومخلصين مفترضين لأننا أمة تعيش في الماضي وتكره المستقبل.
- آخر تحديث :
التعليقات