من قديم الزمان إعتاد الحكام أن يمتطوا شعوبهم، ويسوسونهم كالخيول، ويركبونهم كالحمير. وهناك من يقول بأن كلمة (السياسة) مشتقة أصلا من سائس الخيل؟!، وبها أصبح الحكام يسوسوننا ويوجهوننا بالكرباج نحن الخيول و الحمير أنى يشاؤون.

أصبحت شعوبنا كالأنعام يركبها الحكام كل يوم،ينتفعون من أصوافها وأوبارها وأشعارها،وفيهم من يسلخ جلود معارضيهم، مثلما فعل الحجاج بن يوسف الثقفي راجم الكعبة المشرفة بعهد أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان عندما سلخ جلد أمير المؤمنين عبدالله إبن الزبير المبشر بالجنة، ثم ذبح أكثر من 120 ألفا من معارضي السلطة، ليكافئه أمير المؤمنين وخليفة رسول الله عبدالملك بتعيين راجم الكعبة هذا على عرش العراق!

وحين كانت الدولة الإسلامية تتوسع في العهدين الأموي والعباسي بإتجاه مشارق الأرض ومغاربها بفضل بسالة وإقدام الجندي العربي الذي كان يخلف زوجته وأطفاله الجوعى ليرابط على الثغور،أو يغير على إمبراطوريات الفرس والروم والبيزنطة،لم يكن هذا الجندي يملك أربعة أرغفة من الخبز يستقوي به في قتاله وجهاده ضد أعداء الله، فيما كان أمير المؤمنين وظل الله على الأرض يرتمي بين أحضان أربعة آلاف من الجواري، ويسقى اللبن والعسل ويأكل من أطايب الطعام حد التخمة التي قتلت أحدهم.

وعندما أرسل صدام حسين مليوني عراقي الى جبهات القتال مع إيران، وأرسل مثلهم لمواجهة الأساطيل الأمريكية والبريطانية ودول التحالف بحرب الخليج، كان يرتشف هو أعتق أنواع الشراب والكونياك الفرنسي والويسكي الإسكتلندي ويستمتع بالأناشيد التي تمجده نهارا، ويمضي لياليه بين مزارعه الخاصة يصطاد السمك، أو يشوي لحم الغزال،وجنوده في الجبهات لا يجدون شربة ماء صافي!

وعندما زج الحزبان الكرديان بكردستان أنصارهما في قتال عبثي منتصف التسعينات من القرن الماضي،قتل أكثر من أربعة آلاف شاب كردي، ولكن الجروح لم تندمل حتى ظهر زعيما الحزبين متعانقين تحت الراية الأمريكية،ليعودا الى كردستان ويتقاسمان كعكة السلطة ومليارات الدولارات التي هبت عليهما من بغداد بعد سقوط النظام الفاشي،وليذهب من ذهب قتيلا أو جريحا أو معوقا الى جهنم وبئس المصير.

اليوم تبتلي كردستان والعراق بظاهرة مقيتة من الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة، حتى تحولت هذه الظاهرة المقيتة الى ثقافة بدأت تترسخ حاليا داخل المجتمع العراقي،ولطالما عوتب الموظف النزيه ونظيف اليد والضمير لأنه لا يقبض الرشوة ولا يختلس المال العام. وكم مرة وصف مثل هؤلاء بالغبي أو الأحمق الذي لا يعرف كيف يعيش ويبني مستقبله من خلال إستغلاله للوظيفة والإغتناء بها!. فأصبحت النزاهة وطهارة اليد عارا على الموظف حتى داخل أسرته،وكم مرة سمع مثل هؤلاء زوجاتهم وهن يعاتبونهم على ضنك العيش وتحت أيديهم الملايين. وكم مرة قيل لهم لماذا لا تفعل مثلما فعل جارنا فلان، أنظر كيف حصد الملايين من وظيفته وتبدل حاله من حال الى أحسن حال، وأنت حالك على نفس الحال.

اليوم هناك المئات من المليونيرية في كردستان، وبحسب بعض المصادر غير الرسمية هناك أكثر من 30 شخصا من اًصحاب مليارات الدولارات، ترى من أين جاؤا بهذه الأموال..هل ورثوها من آبائهم وأجدادهم،أم أنهم عثروا على كنز سليمان؟ أم أن وراء كل ذلك سحت حرام وإختلاس للأموال وسرقة للمال العام الذي أصبح لا رقيب عليه في هذا الزمن العفن.

من كان منبوذا بالأمس، أصبح اليوم يمتلك المزارع وتستورد له الغانيات من لبنان وأوكرانيا وجورجيا وإيطاليا.ومن أراد أن ييبض ويجمل أسنانه إستقل الطائرة الى أوروبا، وثلاثون مواطنا فقدوا بصرهم بكردستان بسبب عدم إمتلاكهم لمائة دولار يشترون بها دواء، فإعتمدوا على دواء إستوردته الحكومة وعندما إستعملوه فقدوا أبصارهم،وأستخرجت أعين سبعة منهم في ألمانيا خوفا من إصابتهم بالسرطان،والحكومة مازالت لحد هذه اللحظة ساكتة عن هذه الجريمة الكبرى.

قبل خمس سنوات سافرت الى السويد لزيارة ولدي المقيم هناك، وعندما قرب موعد عودتي نصحني أحد الأصدقاء القدماء أن أبقى هناك وأطلب اللجوء السياسي، ولكني رفضت بإباء، بل وبغباء،وأطلقت صيحة لم تهتز لها جدران ستوكهولم،بل أوقع صديقي على قفاه من الضحك، عندما أجبتهquot;أنا عائد وسوف لن أبادل القمامة المرمية بشارع شيخ عبدالله في أربيل بكل مدن وشوارع السويد.ولكني الآن نادم، لأن هذا البلد ليس بلدا يستحق أن يعيش فيه إنسان.

هناك قلة من المسؤولين والحاشية المحيطة بهم منتفعة من الفساد المستشري في كردستان، مقابل الملايين من الشباب الذين لايجدون ما يعينهم على حياة معيشية بسيطة تلبي حاجاتهم الإنسانية كشباب يعيشون بعصر زادت فيه متطلبات الحياة.مليارات الدولارات تهبط كل سنة على كردستان لا أحد يجرؤ بالسؤال الى أين تذهب ولمصلحة من تصرف.هناك حفنة من المنتفعين المحيطين بالفاسدين في الحكومة تصرف لهم أموالا خيالية بسفرات وإيفادات الى الدول الأوروبية والشرق الآسيوية دون أن يعودوا بأي شيء يخدم بلدهم ما عدا الإرتماء بأحضان الغواني والعاهرات في تلك الدول، حتى أصبح سمعة الكردي ملطخة بالسخام الأسود في العديد من الدول السياحية.

روى لي صديق ثقة أنه شاهد إثنين من أولاد أغنياء الفساد بكردستان، وهما يتسابقان بملهى في بيروت لقضاء ليلة مع إحدى الغانيات، وكيف أن كل منهما كان يزايد على الآخر بسعر الليلة، حتى أوصلوه الى ثمانين ألف دولار لليلة واحدة مع تلك الساقطة. ومصيبة العميان السبعة أنهم ما كانوا يملكون مائة دولار ثمن الدواء. وهناك مشاهد كثيرة تحدث في ملاهي وفنادق كردستان اليوم التي تضج بمسؤولين وأبنائهم كل ليلة.

اليوم ونحن نقترب من موعد ثلاث إنتخابات من شأنها أن تحدد مصير أحزاب الفساد في كردستان،ولذلك ترى معظم مسؤوليهم اليوم يرتدون لباس التقوى والصلاح،فقد حان عندهم وقت الخداع والتزييف وإطلاق الشعارات الرنانة الطنانة كما فعلوا عند كل فترة دعاية إنتخابية،وأصبحوا يتحدثون بملء أشداقهم عن العدالة والمساواة وعن حقوق المواطن.

أستغرب الى متى ينساق أفراد هذا الشعب كالمواشي وراء مثل هؤلاء الناس، وكيف يسمحون لأنفسهم أن يدفعوا فاتورة إستمتاع هؤلاء بحياتهم المليئة بالخطايا والآثام،بل بإرتكاب الجرائم الكبرى ضد هذا الشعب، ويصوتون لمن يسومونهم كل يوم سوء العذاب.

عندما كنت أناضل بجبال كردستان كان يعيش معي أحد قيادات حزبي بغرفة لا تتجاوز ثلاثة أمتار مربعة، وكانت السجائر في القرية النائية التي كان بها مقر قيادة حزبنا عزيزة وغالية، ويصعب العثور عليها هناك، لذلك كنا نتقاسم دائما علبة سجائر( بغداد) وهي من أرخص أنواع السجائر حينذاك،وعندما عدنا بعد تحرر كردستان من النظام الفاشي أصبح هذا المسؤول القيادي وزيرا،فكان هناك طاقم من السكرتارية ومن الحراس الشخصيين والخدم والحشم بحيث بات شخصا مثلي يضيع بينهم!

أـسوق هذه الواقعة لأبين للقاريء من أين جاء هؤلاء،وكيف أصبحوا اليوم.لقد كانوا مؤمنين بقضية شعب يريد أن يعيش حرا كريما،وناضلوا لسنين طوال لتحقيق هذه الأمنية العزيزة، لكنهم اليوم تحولوا الى جلادين للحرية والكرامة التي يهدرونها كل لحظة في كردستان،وأصبحت قضيتهم اليوم هو التباهي بعدد الغانيات والليالي الحمراء التي قضوها معهن،وأصبح الشعب وكرامتهم تداس تحت أقدامهم.

ترى الى متى أظل أنا المواطن أدفع فاتورة حساب هؤلاء الناس في الملاهي والمراقص ونوادي القمار؟.الى متى تنطلي على هذا الشعب تلك الشعارات الفارغة،ووسائل الدعاية الرخيصة والكاذبة،والمتاجرة الوقحة بقضاياه الوطنية والقومية من أجل كسب أصوات الإنتخابات؟!

أما آن لهذا الشعب أن يبادر بالتغيير،ويكسر قيد العبودية ليكون تحرره حقيقيا وليس مجرد تفاهات الكلام بوسائل الاعلام. لقد حان الوقت ليستعيد الشعب كرامته المهدورة فهل من منصت، أم رب منتصت والقلب في صمم؟

[email protected]