لماذا يقوم الفاعل في العمل الإرهابي بقتل مجموعة من الناس وهو لايعرفهم؟ قد يكون مبررا ً أن يقتل أحدهم شخصاً بدوافع مختلفة، بما فيها الإغتيال السياسي، فالأخير له هدف واضح ومعروف مسبقا ً والفاعل له مبرراته بقتل فلان المعروف من السياسيين، ولكن، لماذا في الفعل الإرهابي يقوم الشخص بقتل أناس لايعرفهم ولم يلتق بهم من قبل؟ كنت أبحث عن جواب مقنع لهذا السؤال لكن الأجوبة كانت عديدة ومبنية على افتراضات ربما تكون غير حقيقية. فمن الأجوبة التي لازلت أحقق فيها هي أن الفاعل، أي الإرهابي أو القاتل سمه ماشئت، يعتقد بأن تلك المجموعة من الناس الذين يريد قتلهم هي مجموعة من الأفراد غير موجودين في الحياة، وأن وجدت تلك المجموعة فهي لاتستحق الحياة، فعلينا الحيلولة دون وجودهم في الحياة. أن الوصول إلى نقطة الإلغاء الفيزيائي أو الوجودي لأفراد معينين أو مجموعة معينة بدافع سياسي أو ديني هي عملية طويلة ومعقدة تبدأ من موقف عدم الإعتراف بوجود الآخر المختلف في الشكل أو الجنس أو النوع أو الدين أو الطائفة، بطمس هويته. أن عدم الإعتراف بالآخر نابع من أن الفرد يعتقد، بدوافع دينية متطرفة أو أيدلوجية متشددة، بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة، نعم، هو وحده من على صواب ومن يخالفه لابد وبالضرورة يكون على خطأ. ثم تتحول عملية عدم الإعتراف إلى عملية الإلغاء، أي إلغاء الآخر المختلف، ثم الإقصاء، كإقصاء رأيه أو أقصائه سياسيا ً أو اجتماعيا ً، لتأتي بعدها عملية أثبات الذات بنفي الآخر معنويا ً، كالتسقيط السياسي والأخلاقي، وبفعل ظروف معينة تتحول تلك السلسلة الطويلة من التفاعلات إلى ذروتها بإلغاء الآخر فيزيائيا ً بعد أن تتحقق فكرة أنه غير موجود، أو علينا محوه أن أفترض جدلا ً وجوده في الحياة، فالآخر المختلف لايوجد له مكان في قاعدة بيانات الفاعل أو المجموعة الفاعلة. ولهذا يقوم الفاعل بالفعل مرتاح الضمير. أن المهم في إلغاء الآخر هو تثبيت فكرة الحياة للفاعل، وإن كان الفاعل إنتحاريا ً فهو يحيا بحياة الأشخاص الذين يحملون فكرته إذا أستعرنا مصطلح الإيثار الذي أستخدمه دوركهايم.

إذن، أن كل عمل إرهابي ورائه فعل سايكولوجي معقد، ومعالجة لها بداية ونهاية محددة. تلك هي المدلولات النفسية المفترضة للعمل الإرهابي، ولا أقول الإجرامي، فالعمل الإرهابي له دوافع سياسية محددة، ولكن، هل هناك تفسيرات أخرى أو تفسيرات غير نفسية لعملية قتل مجموعة من الناس لايعرفها القاتل بأي شكل من الأشكال؟ لقد كان هذا السؤال محور للنقاش مع البروفيسور رون آيرمان، أستاذ علم الاجتماع الثقافي في جامعة يل في الولايات المتحدة الأمريكية. لقد قدم البروفيسور تفسيرا ً ثقافيا ً للظاهرة وهي كالتالي.

أن الفاعل لايبحث بالضرورة عن أشخاص يعرفهم ولكنه يبحث عن الرموز لمجموعة أو ثقافة أو دين أو عرق يعتبره عدو. فالرموز العمرانية أو الفنية أو حتى الرموز المعنوية لأي ثقافة أو مجتمع تحمل أو تمثل قيم ومبادئ ذلك المجتمع. فهي تعطي بالضرورة الهوية الجمعية لمجموعة من الناس لأنها خزين معنوي إذ تشكل المعين للذاكرة الجمعية لمجموعة ما حيث أن تلك الرموز تحكي قصة طويلة محددة ممتدة في عمق التاريخ لمجتمع أو ثقافة أو مجموعة ما، كقصة الثورة على المحتل أو قصة الأستقلال الوطني. أن ضرب تلك الرموز هي عملية تستهدف مبادئ ذلك المجتمع أو تلك المجموعة وذلك بخدش هويتها الجمعية أو المحاولة لشغل حيز في ذاكرتها الجمعية بالدخول عنوة ولو بفعل مأساوي يستهدف رموز تلك الثقافة. فضرب برجي التجارة في نيويورك كان يستهدف الرمز الحضاري بهيئته المعمارية وكان يستهدف الرمز الاقتصادي للرأسمالية لذلك يقال أنه هجوم كان يستهدف الولايات المتحدة وليس نيويورك فحسب، بل يستهدف الحضارة الغربية برمتها. لقد شغل الإرهابيون بفعلتهم حيزا ً في الذاكرة الجمعية للمجتمع الأمريكي وسيكون جزء لايتجزء من قصة وجود تلك الدولة في التاريخ. وعلى هذا الأساس، تتسم الفترة التي تعقب أي عمل إرهابي بالصمت المطبق، وكأن عقارب الساعة قد توقفت ليلجئ الأفراد حينها إلى ذاكرتهم الجمعية محاولين أعادة تعريف أنفسهم من جديد بطرح سؤال من نحن وما هي قيمنا ومن فعل هذا وماذا يريد بعد كانت ذلك السؤال أو تلك الأسئلة غائبة عن الأذهان في الحياة الطبيعية التي يعيشها الأفراد.

ومثلا ً آخر هو ضرب القبة الذهبية لمرقد الأمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء بما تشكل تلك القبة من رمز ديني يهم أكثر من ثلاثمئة مليون نسمة ومنها دخل العراق في صراع طائفي لم يخمد أواره إلى الآن بإستهداف المدنين من الأبرياء. لقد دخل الإرهابيون عنوة إلى الذاكرة الجمعية للمجتمع العراقي بطرحهم قصة مغايرة لقصة الوطن الواحد المتماسك بهوية وطنية واحدة، فهم يتحدثون في قصتهم عن طوائف وأعراق وعن العنف والقوة والتمرد، ولكن، لاتخلوا قصتهم أيضا ً من الاحباط وخيبة الأمل من قصة الوطن الذي أصبح غريبا ً كما يدعون بيد المختلفين عنهم، أو أصبح أسيرا ً بيد الأعداء الغربيين الذين لهم قصتهم المختلفة تماما ً عن قصتهم حيث تحتوي قصتهم على قيم ومبادئ لايريدون لأبنائهم أن يتعلموها. فقصة الإرهاب في العراق هو قصة العنف الذي يمثل التمرد في وجه قصة الوطن الواحد والذي يعتبرون قصته قصة مكون واحد فقط حيث يمتلك السلطة بيده.

لايختلف أثنان على أن تلك العوامل النفسية والثقافية تندمج مع عوامل أخرى، كعوامل التفاعل الاجتماعي وأثره في صنع الأرهابي بتزويده بهوية تتشكل بالضد من الآخر المختلف بالشكل والنوع والجنس والدين، أو عوامل بنيوية كالتهميش الاجتماعي أو الوضع الاقتصادي المزري الذي يجعل من بعض الأفراد ينخرطون في العمل المسلح، ولانستثني هنا قلة الوعي والإنغلاق مع قلة التعليم أو تعليم بجودة هابطة وهكذا. ويبقى العامل السياسي من العوامل الفاعلة في المشهد حيث يستطيع أن يستغل العوامل الأخرى لأنه وببساطه يمثل المصلحة لمكون أو مجموعة معينة ويغلف تلك المصلحة بالأيدلوجية لتكون تلك المصلحة مقدسة وغير قابلة للنقاش. لكن العوامل النفسية والثقافية والاجتماعية وحتى السياسية تتفاعل فيما بينها، على المستوى الفردي أو على المستوى الجمعي، لتفسح المجال أمام أي تمريد يريد أن يشغل حيزا ً في الزمان والمكان ليبدأ بالعنف بالضد ممن يمتلك السلطة والقوة. فضرب مجموعة من العمال المدنيين البسطاء بسيارة مفخخة هو عملية تستهدف الدولة لأن العمال أو الجزء الأكبر منهم يحملون نفس هوية الحكومة صاحبة السلطة، فالحكومة في نظرهم تمثل مكون معين.

أن مكافحة ظاهرة الإرهاب تتطلب دراسات مختلفة وعلى جميع المستويات ولايستطيع أن يلمها إلا مركز أكاديمي لدراسة ظاهرة الإرهاب لمعرفة الدوافع المختلفة ورائه حيث تشخص تلك الدراسات الأسباب والتي ربما تكون مختلفة من بلد إلى بلد آخر ومن مجتمع إلى مجتمع آخر وتفترض مجموعة من الحلول التي تجنب الدولة الكثير من المال والجهد الأمني وتجنب المجتمع الضحايا الأبرياء الذين لاناقة لهم ولاجمل في كل ذلك.

[email protected]