كثر الحديث هذه الايام عن احتمالات الحرب الاهلية في العراق، بين مبشر ومهلل وبين محذر، هذا التباين يعكس مقولة ان العاقل يدرك الفتنة حينما تقبل بينما الجاهل يدركها حينما تدبر بعد ان تخلف ما تخلفه من دمار هائل يشمل الدار والانسان، والحجر والبشر، وينشر عوالم الموت والاحباط واليأس والكراهية لاجيال عدة.

هذه المقدمة تدفعنا الى التساؤل لمذا يتم الدفع بالعراق الى الاقتتال الداخلي، هل هي عقلية المؤامرة، ام ان العراق الموحد يشكل تهديدا للاخرين، وهذا يذكرنا بقصة مشهورة حينما غزا الاسكندر المقدوني ارض بلاد مابين النهرين فلم يهنئ له مقام فيها، وكتب الى استاذه ارسطو بانه غزا الارض جميعا فلم ير شعبا بهذا القدر من المقاومة لحكمه مثل شعب الرافدين، ويستشيره بانه يفكر في إبادة سكان العراق جميعهم حتى يظهر جيل جديد، فاجابه بان ذلك لن يغير شيئا، فالبشر الذين يولدون على هذه الارض سيتنشقون نفس الهواء ويشربون الماء ذاته وياكلون ما اكله الاولون وبالتالي فان طبيعة البشر ستكون واحدة، واقترح عليه حلا بديلا بان يولي على كل مجموعة اميرا، فينشغلوا عنه بالصراع فيما بينهم وبالتالي سيؤول الامر اليه بمنتهى اليسر.

وما اشبه اليوم بالامس، فالقوى الكارهه للعراق لاتريده دولة موحدة قوية لانه لو توحد العراقيون لفعلوا الكثير الكثير، لان العراق الموحد القوي سوف لن يكون تابعا بل عنصرا مستقلا، والبحث في التاريخ البعيد والقريب يدل على شئ واحد ان العراق دوما كان قطبا جاذبا ومحركا لاحداث كبرى في التاريخ.

وتمتاز بلاد مابين بانها ذات حضارات متواصلة، خلافا لبقية الحضارات فالحضارة الصينية واحدة، وإذا ما ذكرت الحضارة المصرية فالذهن يذهب مباشرة الى الحضارة الفرعونية، اما حضارة وادي الرافدين فهي سلسلة حضارات ما ان تنتهي بواحدة حتى تبدأ بواحدة اخرى بداءا بالحضارة السومرية، quot;وهي اقدم الحضارات من حيث نطاق الزمن، وتسبق الحضارة الفرعونية والاغريقيةquot; مرورا بالحضارة الاكـــــدية ثم الحضارة البابلية وانتهاءا بالحضارة الاشورية.

ولو انتقلنا الى الاخترعات البشرية لوجدنا ان في معظمها عراقية المنبع ويذكر العلامة المرحوم بهنام ابو الصوف ان الكتابة وانظمة التعليم والمدارس قد عرفت في سومر، ومبدأ الشورى والانتخاب في اوروك، واول خريطة في العالم تعود للعصر البابلي، واول عدسة في العالم هي عدسة النمرود لدى الاشوريين، وان نظم الري اكتشفت في العراق، ولازال سر ارواء الجنائن المعلقة ماثلا ومحيرا للعلماء الى وقتنا الحاضر، امافي حقل القوانين والتشريع فمسلة حمورابي لازالت خير دليل على الابداع الحضاري لارض الرافدين، كما ان نظم الاعداد والهندسة والصفر هي اختراع عراقي صرف، وعلم الفلك كان بداياته في الحضارة البابلية والاكدية، ونشوء التخطيط الحضري والمدن ظهر في مدينة اريدو، والمحراث والزراعة ونظم الري وجدت في مطلع الالف السادس قبل الميلاد، واول نوطة موسيقية وجدت في بلاد سومر، كما ان أدب الملاحم وجد في بلاد ما بين النهرين، لعل من اهمها ملحمة الخلق السومرية (الاينوماايليش) وكذلك محلمة (كلكامش)، وغيرها من الاختراعات التي لا تعد ولا تحصى وجدت في هذه الارض المنتجة.

وفي عمق التاريخ كان هناك صراع قوي بين الحضارة المصرية والحضارة العراقية للهيمنة على المنطقة، غالبا ما كانت تؤول نتيجتها الى لحضارة العراقية، وتذكر كتب التاريخ والاسفار هذه الحقائق، فالاشوريون قد سيطروا على مصر بشكل كامل، اكثر من مرة كان اخرها عندما اقدم الملك الآشوري اسرحدون على غزو مصر في العام في سنة 671 ق حتى تمكن ابسماتيخ من انهاء احتلالهم لمصر، وكذلك استطاع البابليون من هزمية الفرعون نخاو، كما انتصر الكلدانيون على المصريون في معركة كركيش في 605.ق.م، هذا الصراع امتد عبر التاريخ وصولا الى العصر الحديث حيث كان هناك صراع كبير بين مصر والعراق على قيادة العرب سواء في العهد الملكي او في العهود الجمهورية، والذي ان يعكس من بين ما يعكسه قوة الدولتين ومكانتهما الاستراتيجية في المنطقة تلك القوتين اللتين تشهدان نكوصا وتراجعا لصالح دولا اقليمية اخرى سوف نناقشهما في المقالة اللاحقة.