تشهد كردستان العراق الآن معركة حامية الوطيس بين الكتل السياسية حول مشروع الدستور. ما يعني أنّ كردستان بدأت تعاني من quot;عقدة الدستورquot;، التي طالما عانت منها بغداد، وكانت ولا تزال مثار جدلٍ بيزنطي بين جميع الكتل المشاركة في العملية السياسية، بمختلف تياراتها الدينية والقومية والعلمانية، حتى تحوّل الدستور بينها إلى ما يمكن تسميته بquot;دستور كثيرquot;، حمّال أوجه، قابل لقراءات كثيرة، فتعدد الدستور العراقي بتعدد قراءاته العراقية والإقليمية.

ذات العدوى التي يمكن تسميتها بquot;عدوى الدستورquot; انتقلت الآن إلى هولير. المعركة التي هي في أساسها معركة quot;كسر عظمquot;، تدور رحاها بين رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني والمعارضة الممثلة بحركة التغيير كوران، والإتحاد الإسلامي الكردستاني، والجماعة الإسلامية الكردستانية، والمستقبل. انضمام الإتحاد الوطني الكردستاني، الشريك مع حزب بارزاني في السلطة، إلى صفوف المعارضة، مؤخراً، صبّ المزيد من الزيت على نار المعركة.

جوهر الخلاف بين حزب بارزاني ومعارضيه حول مشروع الدستور يكمن في رفض الأول إعادته إلى البرلمان كأعلى سلطة تشريعية، كما تطالب به المعارضة. ما يعني أن بارزاني يحاول quot;القفزquot; على البرلمان، لتمرير مشروع الدستور، من خلال عرضه على الإستفتاء الشعبي العام، وهو ما يرفضه أهل المعارضة جملةً وتفصيلاً. البرلمان بالنسبة لهم هو الحكم والفيصل، لإجراء التعديلات اللازمة عليه، ومن ثم التصويت عليه تحت قبته.

تهدف المعارضة من وراء هذا الإجراء إلى تغيير النظام السياسي في كردستان من نظام رئاسي إلى نظام برلماني، وتقليص صلاحيات رئيس الإقليم الواسعة (24 صلاحية) والتي تمنحه سلطة شبه مطلقة، أمنياً وسياسياً، ليصبح منصبه رمزياً تشريفاتياً، على غرار منصب رئيس الجمهورية في العراق.

في خطابه الأخير بمناسبة quot;ثور أيارquot; أمام جماهير حزبه، جدد الرئيس بارزاني موقفه بعرض مشروع الدستور على الإستفتاء الشعبي العام دون الرجوع إلى البرلمان، لأن هذا الأخير quot;ليس مخوّلاً لحسم قضية الدستور ولا علاقة له بالتصديق على مسودتهquot;، على حدّ قوله. الإستفتاء على الدستور، هو بحسب بارزاني حقٌ للشعب وحده.

خطاب بارزاني أثار ردود أفعال كثيرة، ليس من جهة المعارضة فحسب وإنما أيضاً من جهة شريكه في السلطة، حزب طالباني، حيث وصفت بعض قياداته بارزاني بquot;رئيس أحزابquot; بدلاً من أن يكون quot;رئيساً لإقليم كردستانquot;. في حين أن قيادات من الإتحاد الإسلامي الكردستاني وصفت فترة حكمه بquot;الأسوأ في كلّ تاريخه السياسيquot;.

لا شكّ أن الشعب في الثقافات الديمقراطية هو الأصل في كلّ السلطات، لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه ههنا، لماذا يتمسك بارزاني بquot;حقquot; الشعب في الإستفتاء على الدستور، فيما تصّر المعارضة على quot;حقquot; البرلمان في الفصل في مشروع الدستور، وتعديله ومن ثم التصويت عليه؟
أوليس البرلمان هو من هذا الشعب، أو هكذا من المفترض به أن يكون، وذاك الشعب هو لذاك البرلمان؟
بكلام آخر، ما السرّ الذي يكمن وراء quot;القفزتينquot;: quot;قفزquot; بارزاني على برلمان كردستان كرئيسٍ لها، وquot;قفزquot; المعارضة على شعب كردستان؟

لا شكّ أن المعركة في أساسها، هي quot;معركة نفوذquot; بين أهل المعارضة تحت قيادة حركة التغيير كوران من جهة، وبين أهل السلطة بقيادة حزب بارزاني من جهة أخرى. لا علاقة لهذه المعركة بquot;حق الشعبquot;، بقدر ما أنها معركة من أجل quot;حقوقquot; أحزاب، وquot;حقوقquot; زعماء.

بارزاني يريد quot;القفزquot; على البرلمان، لأن مجرد إعادة الدستور إلى البرلمان، الذي بات يشكل حزبه فيه quot;أقليةquot;، سيعني شيئين: الأول، تعديل المادة الأولى من الدستور، ليصبح نظام الحكم في كردستان، نظاماً برلمانياًَ بدلاً من كونه نظاماً رئاسياً. الثاني، تعديل صلاحيات الرئيس وتقليصها من quot;صلاحيات شبه مطلقةquot; إلى صلاحيات محدودة، أي تعديل منصب الرئيس من quot;رئيس شبه مطلقquot; إلى quot;رئيس رمزيquot; للبلاد. الأمر الذي سيؤثر سلباً على quot;كاريزماquot; بارزاني، ونفوذ عائلته وحزبه في مفاصل الدولة الأساسية.
هذا الخيار الذي تتمسك به المعارضة هو خيار quot;مضمونquot; بالنسبة لها، على العكس من الخيار الآخر، الذي تعتبره غير مضمون النتائج، لأسباب لها علاقة بنفوذ حزب بارزاني، الذي يتحكم بمجمل مفاصل الدولة الخفية والعلنية. هذا ناهيك عن كونه خياراً، قد يعيد قضية الدستور في البلاد إلى نقطة الصفر، الأمر الذي سيدخل كردستان في فراغ دستوري وجدل سياسي له أول وليس له آخر.

القضية بكلّ ما فيها، تكمن إذن، في الصراع على كردستان، بين بارزاني وحزبه، الذي بات يعيش quot;أزمة تحالفاتquot; حتى مع شريكه في السلطة، من جهة، وبين معارضة صاعدة، تريد سحب البساط من تحت أقدامه، من خلال معركة الدستور، من جهة أخرى.

كل طرفٍ منهما يحاول كسر شوكة الطرف الآخر، وكسب المعركة عبر الدستور. هذه المعركة مهمة بالنسبة للطرفين، لأسباب ثلاث:
الأول، في شهر آب أغسطس المقبل ستنتهي ولاية بارزاني كرئيس للإقليم.
الثاني، الواحد والعشرون من شهر أيلول سبتمبر القادم، هو موعد الإنتحابات البرلمانية والرئاسية في الإقليم.
الثالث، في ذات الفترة ستنتهي ولاية الحكومة الحالية برئاسة نيجيرفان بارزاني، لتخلفه شخصية أخرى من الإتحاد الوطني الكردستاني، بحسب quot;الإتفاقية الإستراتيجيةquot; الموقعة بين الطرفين، والتي باتت قاب قوسي أو أدنى من الإنهيار.

كلا الطرفين يحاولان استغلال هذه المعركة بشتى الوسائل لصالحه، لأن عدم حسم قضية الدستور، سيعني دخول كردستان في فراغ دستوري كبير قد يفضي إلى ما لا يُحمد عقباه.

هامش المناورة بات يضيق أمام بارزاني وحزبه الذي يعاني راهناً من quot;أزمة تحالفاتquot;، خصوصاً بعد انضمام شريكه إلى مطالب المعارضة. بارزاني الذي عرف في العراق بأنه quot;رجل التوافقات والشراكات الوطنيةquot;، ما عاد كذلك، كما بدا من كلمته الأخيرة، على الأقل من وجهة نظر معارضيه، الذين باتوا يشكلّون أكثرية.

أمام بارزاني، والحال، خياران، أحلاهما مرّ:
الأول، الإنصياع لشروط المعارضة والقبول بإعادة الدستور إلى البرلمان، الأمر الذي سيعني نهاية بارزاني كquot;زعيمquot; لكردستان، وفقدانه للكثير من كاريزميته، ناهيك عن فقدانه وعائلته للكثير من أدوات النفوذ والسلطة في كردستان.
الثاني، الرضوخ لمطالب شريكه الذي يلعب الآن دور quot;بيضة القبّانquot;، وإقناعه بالعدول عن قراره، ليمضيا في اتفاقهما، الquot;فيفتي فيفتيquot;، كشريكين متساويين في كردستان وما عليها.

أما في حال إصرار بارزاني على المواجهة والمضي في معركة الدستور قدماً، بالضد من إرادة أهل المعارضة وشريكه في السلطة، فسيعني ذلك تحوّل هولير، على الأرجح، إلى quot;بغداد ثانيةquot;، وتحوّل كردستانها، ربما، إلى quot;كرة نارquot; يتقاذفها كلّ فريق بإتجاه الآخر.

فهل سينتصر الدستور لصالح كردستان، أم ستتحوّل هذه الأخيرة إلى quot;ضحيةquot; له، على مذبح زعماء أحزابها وملوك طوائفها؟

[email protected]