بدأت ظاهرة الخادمات الآسيويات من سيريلانكا، والهند، والفيليبين، تتسلل إلى عمق المجتمع السوري، والحمد لله، وعلى نطاق يكاد محصوراً حتى الآن، بتلك الطبقات الاجتماعية فاحشة الثراء، واللهم لا حسد( هذه إعرابها سيكولوجياً= اللهم حسداً وضيقة عين كمان)، أو صاعدة الثراء الفجائي والداخلة حديثاً إلى نادي الميسورين والمرضي عنهم والأغنياء الجدد، الذين أنعم الله عليهم، وأثروا، ويا عيني عليهم، في غفلة عن أعين quot;الرقابة الحكوميةquot; التي لا تطارد إلا جيوب المعثرين والفقراء المناحيس.

وباتت- الطبقات- والله يهنيها يا رب، لا تعرف أين، وكيف ستصرف تلك الأموال التي جنتها من عرق الفهلوة وخفة اليد، ورأت في استقدام الخادمات، قناة جيدة لتبييض الأموال، وتبديدها على الكماليات مما حلل الله، دون الالتفات إلى حقيقة أن الظاهرة تشكل أرقاً حقيقياً للمجتمعات الخليجية جعلتها في حال من التيه والضياع والصراع الثقافي والفكري والسلوكي العام. وتبدو الظاهرة اليوم، وفي أحد وجوهها الطبقية، هوية اجتماعية جديدة تميـّز بين المواطنين، ونوعاً من الافتراق المتعمد عن الوسط الاجتماعي السوري العادي الشعبي والتقليدي، والالتحاق العلني بنادي الأغنياء والأقوياء والأثرياء من محدثي النعمة والميسورين، وأولئك الذين يعتقدون، أو يتوهمون بأنهم quot;مهمّونquot;، ومميزون عن الآخرين، ولا يجب أن يلحق بهم العار ويتشبهوا، أبداً، ولا سمح الله، بالسوريين الدراويش والبسطاء. فكما كانت السيارة أيام quot;المد القومي والثوريquot;، رمزاً للتميز والتفرد والتميـّز والفصل الطبقي والبرستيج الاجتماعي، صارت اليوم، الخادمة الآسيوية، وتيمناً، أيضاً، بالخلف الصالح من إخواننا في الخليج الفارسي، رمزاً من رموز القوة المالية والتفوق الطبقي وجواز سفر للالتحاق الطبقي والبراءة التامة من قوافل فقراء المواطنين. وصارت شرطاً quot;شرعياًquot; من شروط إتمام quot;صفقاتquot; العريس المميز ابن quot;الأكابر والذوات والناس المهمّـينquot;، ومصدراً للمباهاة والتفاخر الطبقي باقتناء خادمة، كما تقتنى مصاصة المتة، وأباريق الشاي وبوابير الكاز بالنسبة للفقراء. ومن لا خادمة له، قلا جاه ولا عز له، ولا عزاء للمشحرّين على الإطلاق.

المهم، لن نتعرض للظاهرة أكاديمياً وإحصائياً وسفسطائياً وفذلكياً وماركسياً لينينياً بائداً، كما يفعل بلاشفة سوريا الذين مازالوا، رغم أن المرحوم ماركس نفسه قدس الله سره قال لهم: quot;لا تصدقوني بل صدقوا أحفاديquot;، يقاربون القضايا على اعتبار أن الرفاق بريجنيف وأندريه غروميكو وألكسي كوسيغين ما زالوا في الكرملين. وسنمر على الظاهرة، وكعادتنا، مرور المستعجلين الكرام ومن quot;برى لبرىquot;، يعني quot;من أريبو وليس أريباquot; كما يقول الشوام. ومع توغل ثقافة الخادمة إلى عمق المجتمع السوري، نكون قد بلغنا طوراً جديداً من الانعطاف الاجتماعي بدأت مفرزاته وآثاره تظهر إلى الواقع والعيان. وعلى عكس دول ومشيخات الخليج الفارسي، الذي يتسم عموماً بالمحافظة وندرة التباينات لأنه مجتمع تراتبي هيراركي تعزز بقاءه وتدعمه الهبات المالية الأبوية، ولا يوجد فيه أي نمط من أنماط الإنتاج لا الزراعي ولا الصناعي أو علاقاتهما، فإن التنوع والتعدد الثقافي والعرقي في سوريا يفرض ذاته أيضاً على شكل التعامل مع، وحياة الخادمات أنفسهم في المجتمع السوري. فإذا كانت العائلة السورية محافظة مثلاً، فإنها ستستقدم خادمة quot;مسلمةquot; حصراً، فلا وجود لكافرة في quot;أرض الديارquot;، وسينعكس، ذلك، أيضاً على وضع ولباس وزي الخادمة التي عادة ما تكون غير جميلة، متحجبة، ومتزمتة، وعابسة الوجه والعياذ بالله، ولا تبتسم لرغيف الخبز، ويقاطعها رب المنزل ويفرض، عليها نوعاً من الرقابة الصارمة والحظر ولا يكلمها إلا بالوكالة ومن quot;مناخيروquot; أحياناً ومن وراء حجاب، ولا ينظر إليها أبداً خشية الزنا بالنظر وأستغفر الله، وعادة ما تقلد الخادمة سلوك الأسرة المحافظ في كل شيء ويجب عليها الالتزام به، فلا حفلات ولا موسيقى ولا دردشة مع الغرباء، ولا اختلاط، ولا موسيقى ولا سباحة ولا غناء. وأما إذا كانت العائلة متحررة، فإن الخادمة عادة ما تكون جميلة، بشوشة مرحة، كاسية عارية، دائمة الابتسام، سافرة الوجه والعياذ بالله، وحاسرة الرأس، ( هذه المفردة النشاز لطشت عمداً من أدبيات دورة الأغرار)، وتراها تلبس القصير والحفر والجينز والشورت وتضحك بمناسبة ومن دون مناسبة، وتتسلى ويسمح لها بالرقص ومتابعة كافة قنوات التلفزيون، وتلبس على الموضة، وربما تحتسي الخمر والمنكر، والعياذ بالله، في المناسبات والحفلات والدعوات. وتكون الخادمة، على العموم، نسخة مطابقة لسلوك وثقافة quot;المدامquot; صاحبة القرار المنزلي عادة في ثقافات الحرملك وquot;الزلملكquot; والغلمان.

وبعكس الدول التي باتت فيها لغة القرآن الفصحى كواحدة من أضعف اللغات المتداولة، فإن اللهجات المحلية باتت تسيطر على الخادمات الآسيويات، ويبدو أمر إتقان اللهجات السورية المتنوعة مهمة غاية في الصعوبة بالنسبة للخادمات الآسيويات إذا ما رغبن بالتنقل بين المحافظات. وكم كانت المفارقة مرة وغريبة، حين سمعت خادمة فيليبنية، جميلة ولا أروع،( أعتقدت في البداية ويا لكسوفي وخيبتي، بأنها زوجة رب الأسرة المأسوف على شبابه قبل أن تظهر لي quot;البومةquot; زوجته آية الجمال وربّـة الحسن والدلال)، وهي- أي الخادمة- ترطن باللغة الساحلية الجبلية المعروفة، أي quot;تبقبقquot; بالقاف المضخمة، تماماً كما quot;تبقبقquot; جميلات ضيعتنا في ذرى تلك الجبال الساحرة الشاهقة الخضراء. ونفس الأمر ينطبق على خادمات آسيويات بتن يتقن اللهجة الشامية الرقيقة والناعمة والدافئة، أو الحلبية المضخمة والمفخمة والقوية، أو حتى البدوية في الجنوب السوري والجزيرة في شمالها الشرقي. وقد يلزم الخادمة دورة quot;لهجةquot; مكثفة ربما، للانتقال من عند عائلة في درعا، إلى عند عائلة في طرطوس، أو حلب مثلاً. بينما تستطيع نفس زميلتها العاملة في الخليج الفارسي الانتقال من الجهراء الكويتية، في أقصى الشمال، إلى خورفكان الإماراتية، في أقصى الجنوب الشرقي، دون أن تواجه أية تمايزات سلوكية وثقافية، أو تكابد أية عقبات لغويةLinguistic Obstacles.

الظاهرة، وعلى طرافتها، ومفارقاتها، وغرابتها، لم تزل في خطواتها وطورها المبكر الأول، بعد، ولم تمتد بشكل أفقي، ولذا من الصعب فرز أو حصر كافة تداعياتها العديدة في عجالة كهذه كالاضطهاد والتحرش الجنسي والجريمة والسفاح والشذوذ والإيدز، غير أنه، ومن المؤكد، ستكون لها، بظني، وإذا ما تركت على غاربها، الكثير من العواقب الوخيمة، والباعثة على التأمل والندم، في وقت، قد لا ينفع معه أي نوع من التوبة، والاستغفار، والندم.

نضال نعيسة
[email protected]