مأسآة اللاجئين العراقيين عقب سقوط نظام صدام حسين الديكتاتوري تكتسب أبعادا إنسانية لا يمكن تصورها خاصة أنها للاجئين من دولة نفطية يفترض أن شعبها يعيش حياة رفاهية كبقية الدول النفطية خاصة في الخليج العربي، إلا أن انعدام الأمن والاستقرار الذي ما زال سيد الموقف في الحياة اليومية في العراق، جعل حياة اللجوء والهجرة والتشرد والفاقة أرحم بكثير من موت لا تعرف متى وكيف يأتيك، خاصة إذا كانت القيادات السياسية والحزبية والعشائرية وكبار ضباط الأمن والجيش الذين تتوفر لها الحماية من ماركة (بلاك ووتر)، ليسوا في مأمن ويموتون بشكل يومي ومجاني أيا كانت هوية القتلة وأهدافهم،مما جعل من موجات اللجوء و الهجرة العراقية أضخم موجات بعد اللجوء الفلسطيني عام 1948 التي كانت أيضا بسبب الموت والرعب اليهودي الذي أشاعته عصابات شتيرن والهاجاناة لتشريد أكبر عدد ممكن من أصحاب الأرض الفلسطينيين، والموت العراقي الجديد أوصل عدد اللاجئين العراقيين إلى أرقام قياسية لم تعرفها أية أماكن في العالم شهدت صراعات مشابهة، ففي الأردن قرابة 800 ألف لاجىء عراقي وفي سورية ما لا يقل عن مليون وربع وفي مصر رغم عدم حدوديتها مع العراق قرابة 120 ألفا، وتؤكد كافة المعلومات والشهادات صعوبة الحياة التي يعيشها هؤلاء اللاجئون العراقيون في الدول الثلاث، بسبب الأوضاع الصعبة أساسا في تلك الدول، وعدم وجود الاستعدادات المسبقة لاستقبال هذه الأعداد الكبيرة وهي أعداد لا تنفع معها أية استعدادات مسبقة خاصة، بدليل الاضطراب وارتفاع الأسعار الذي أحدثته موجات الهجرة هذه خاصة في الأردن بسبب ارتفاع نسبة هؤلاء اللاجئين قياسا بإمكانيات البلاد وعدد السكان الإجمالي حيث يشكل اللاجئون العراقيون حوالي 15 % من مجموع سكان الأردن.
ضمن هذه الظروف الصعبة للاجئين العراقيين، أقدمت الحكومة الأردنية رغم صعوبة أوضاعها أيضا على خطوة لاحقة لخطوتها الأولى قبل شهر حيث وافقت على قبول الطلبة العراقيين في المدارس الحكومية دون شرط الإقامة، وقد نصّت الخطوة الجديدة على إعفاء الطلبة العراقيين الذين يقدر عدهم ب 40 ألفا من الرسوم وأثمان الكتب المدرسية التي يدفعها الطلبة الأردنيون، وطالبت وزارة التربية والتعليم الأردنية كافة المدارس الحكومية بإعادة الرسوم وأثمان الكتب المدرسية للطلبة العراقيين الذين قد دفعوها، ورغم أن المفوضية السامية العليا للاجئين دعمت وزارة التربية والتعليم الأردنية بمبلغ أربعة ملايين دينار أردني لهذا الغرض، إلا أنه مبلغ ضئيل للغاية في ضوء المعلومات التي تؤكد أن كلفة الطالب السنوية في أية مدرسة حوالي 1500 دينار أردني، مما يعني أن كلفة 40 ألف طالب عراقي هي حوالي ستون مليون دينارا أردنيا، ونستطيع إذن تصور حجم هذه الخطوة الأردنية ودورها في مساعدة ودعم اللاجئين العراقيين على ضوء المعاناة التي يعيشونها، ولا يعرفها إلا هم أو من يزور الأردن ويختلط بهم ويقابل أصدقاءه العراقيين المقيمين هناك، فليس كل هؤلاء هربوا من رعب بلادهم وهم يحملون الحقائب المليئة بملايين الدولارات كما يتصور البعض فغالبيتهم هربوا بحياتهم وأرواحهم فقط .

ما هو دور الحكومة العراقية إزاء هذه المأسآة؟

الحكومات العراقية المتعاقبة منذ سقوط نظام صدام حسين هي المسؤولة عن معاناة هؤلاء اللاجئين العراقيين، لأنها حكومات لم تتمكن من فرض الأمن والاستقرار مما أوجد حالات اللجوء الجماعية هذه للدول المجاورة والبعيدة أيضا، إذ تقدّر منظمة اللاجئين العالمية عدد اللاجئين العراقيين حوالي أربعة ملايين ويزداد العدد إذا أخذنا في الاعتبار المهجرين داخليا، أي الذين اضطروا لترك منازلهم ومناطق سكناهم إلى مناطق أخرى بسبب القتل والموت على خلفيات طائفية، فهناك العديد من المناطق ذات الأغلبية السنّية هجرها سكانها الشيعة والعكس أيضا، وتقدر الوكالة عدد الذين يغادرون العراق شهريا ب 150 ألف شخصا، و أنها quot; الأزمة الأسرع في العالم وأن اللاجئين العراقيين باتوا يهددون النسيج الاقتصادي والاجتماعي لكل من الأردن وسورية quot;، ويرى مالكولم سمارت مدير برنامج شمال أفريقيا والشرق الأوسط في المنظمة (أن المجتمع الدولي لم يعط اهتماما كافيا لأزمة اللاجئين العراقيين تاركا الأردن وسورية تتحملان أغلب أعباء المشكلة). وهذا التشخيص صحيح تماما لأنه من خلال الإطلاع على حركة اللجوء والهجرة في أغلب دول العالم لا تواجه الدول الأوربية مثلا هذه المشكلة بنفس الحدة، لأن عدم حدوديتها مع العراق والشروط الصعبة لدخولها يجعل أعداد اللاجئين العراقيين في حدود ألاف في بعض الدول ومئات فقط في دول أخرى مع إمكانيات أضخم بكثير من قدرات سورية والأردن، مما يجعل السؤال عن دور الحكومة العراقية أكثر إلحاحا ومنطقية من السؤال عن دور دول العالم خاصة إزاء الكم الهائل في الأردن وسورية .

تبدو الحكومات العراقية المتعاقبة منذ سقوط نظام صدام حسين أنها غير مشغولة بهذه المشكلة وليست على جدول أعمالها بدليل:

أولا: أنها لم تحقق أي تقدم على مستوى الأمن أو الاستقرار في البلاد مما يسمح بعودة اللاجئين والمهجرين، وكافة الأحزاب والتنظيمات المكونة للحكومة العراقية مشغولة أساسا بالمحاصصة الطائفية والتنظيمية حتى داخل الطائفة الواحدة، فالصراع بين جماعة مقتدي الصدر (جيش المهدي) من جهة والأحزاب الشيعية الأخرى كالمجلس الأعلى الإسلامي في العراق (سابقا المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) و (حزب الدعوة الإسلامية) كمثال لا يمكن أن يفهمه أحد من العقلاء أم المجانين على أنه صراع من أجل استقرار العراق ووحدته بقدر ما هو صراع على السلطة والمال وتمثيل شيعة العراق، فالأعمال البهلوانية الصبيانية لمقتدى الصدر من دخول البرلمان و تجميد العضوية فيه، ودخول الحكومة والخروج منها، ثم تجميد عمل جيش المهدي لستة شهور والفرار لإيران حينا والعودة منها بعد حين، كل هذه الأعمال لا تخدم الأمن والاستقرار ولا تعجّل بظهور السيد المهدي، وإن ظهر سيلطم طويلا على حالة الفوضى والموت والقتل الذي لا هدف وطني له وغالبا سيختفي السيد المهدي ثانية لأنه لا يستطيع المساعدة في هكذا أوضاع خلقها العراقيون أنفسهم، بعد أن منّ عليهم الله وجورج بوش بإسقاط نظام الطاغية صدام، فإذا هم يخلقون دوامة موت ورعب لا تقل عما كان في زمن صدام. وكذلك الأحزاب السنيّة فهي تساهم في هذا الموت من خلال صراعاتها الداخلية وتذبذب المواقف، فمنها من يدعم الإرهاب باسم المقاومة، ومنها من يحارب الإرهاب فعلا فيتم قتله كما حدث مع الشيخ عبد الستار أبو ريشة رئيس مجلس صحوة الأنبار الذي تم اغتياله يوم الثالث عشر من سبتمبر الماضي، بسبب محاولاته وأعماله لمحاربة الإرهابيين في محافظة الأنبار.

ثانيا: السكوت والمساهمة في حالة الفساد الرهيب التي تجتاح كافة مؤسسات ووزارات العراق، فساد يشارك فيه كبار المسؤولين من وزراء وخلافهم وكأن الشعار لدى المسؤولين أصبح (أسرق ما تستطيع بأسرع ما تستطيع لأن أيامك في المنصب معدودة)، وبالتالي استشرى الفساد بشكل ما عاد ينفع فيه ومعه (المفوضية العامة للنزاهة) التي على عملها علامات استفهام عديدة، فما السرّ أن أي شخص يصدر اتهام بحقه يكتشف أنه كان قد غادر البلاد قبل أيام من صدور لائحة الاتهام، كما حدث في حالة مشعان الجبوري رئيس ما كان يسمى (كتلة المصالحة والتغيير) في الجمعية الوطنية المنحلة، فقد هرب من العراق مع ابنه يزن قبل صدور لائحة اتهامه ب (سرقة ملايين من الدولارات المخصصة لتوفير الحماية لأنابيب النفط)، وقد ذكرت آنذاك صحيفة نيويورك تايمز (أن الجبوري أناط بشركة يديرها ابنه يزن مهمة تجهيز أفواج الحماية لأنابيب النفط بمؤن ومواد غذائية لجنود بأسماء وهمية ينتسبون إليها فضلا عن حصوله على رواتبهم الشهرية وتحويلها لمنفعة مجاميع إرهابية، أوهم الجميع أن أفواجه الأمنية تعمل على مكافحتها)، ورغم صدور مذكرة إلقاء قبض دولية على الجبوري وابنه،فلا يتم ملاحقة هذه المذكرة من أية دائرة من دوائر الحكومة العراقية، فها هو الجبوري يسرح ويمرح في دمشق الفيحاء ويستعد لإطلاق فضائيته الجديدة على أنقاض فضائيته السابقة الزوراء التي تم إغلاقها ومنعها من البث من المدن العراقية بسبب دعايتها العلنية ودعمها للمجموعات الإرهابية. وقد كشف تقرير جديد منذ أيام أعدته السفارة الأمريكية في العراق تفاصيل بالغة الخطورة عن تفشي الفساد داخل الحكومة العراقية، ويعطي التقرير صورة عن الفساد في جميع المؤسسات الحكومية التي قال إن العديد منها يخضع لسيطرة ميليشيات وعصابات إجرامية، وأشار التقرير إلى أن مكتب المالكي شخصيا يرفض السماح لأطراف مستقلة بالتحقيق في قضايا الفساد .

ضمن هكذا اهتمامات حكومية عراقية فإن مسألة اللاجئين العراقيين ليست ضمن أجندة الحكومة العراقية المشغولة بما سبق ذكره، وبالتالي فإن موجات الهجرة واللجوء العراقية مرشحة للزيادة خاصة باتجاه الأردن وسورية، وتبعات هذه الهجرة أكثر بكثير من قدرات الأردن وسورية، وتحديدا الأردن ليست قادرة على فعل أكثر من هذه الخطوة الإنسانية، لذلك نسمع من حين إلى آخر عن تدابير أردنية وسورية للحد من موجات هذه الهجرة، وبصراحة كاملة لا يستطيع أي شخص موضوعي أن يلوم الدولتين في أية إجراءات تتخذها مهما كانت صعبة وقاسية، فهي ستكون أفضل من دخول هذه الموجات المهاجرة التي ستخلق بدورها مشاكل فوق قدرات البلدين الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية أي كافة البنى التحتية للمجتمع. إن اللوم كل اللوم في هذه الحالة ينبغي أن يتوجه للحكومة العراقية المشغولة بما سبق ذكره، وفيما يتعلق باللاجئين العراقيين فهي (شاهد شاف كل حاجة وما عملش حاجة) غير تغذية الوضع الذي يجعل الهروب إلى المجهول أفضل من انتظار موت آتيك لا محالة، وازدياد نسبة العراقيين الذين يترحمون على أيام صدام، مثل الفلسطينيين الذين جعلتهم حروب فتح وحماس يترحمون على أيام الاحتلال.
[email protected]

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونيه