من عشرة سنوات، حرصْت على أن أذكر فى ست مرات، أن القرار الصادر من رئيس جمهورية مصر بتاريخ 26 يوليو 1952 بتأميم شركة قناة السويس، لم يؤد إلى تأميمها قانونيا وفعلياً، وإنما انتهى إلى مجرد الاستيلاء على مبانى شركة قناة السويس، وعلى المجرى الملاحي للقناة. وكانت أسبابي فيما أركن اليه (أولاً) أن قرار التأميم المذكور تضمن بندا بتعويض المساهمين فى شركة قناة السويس من البريطانين، وكانت حصصهم تبلغ مقدار 44٪ من الاسهم. وقد رأى باقى المساهمين وأكثرهم من الفرنسيين أن فى هذا القرار مصادرة قانونية (de jure) لأموالهم، كما رأى المساهمون من البريطانيين ndash; فى ذات القرار ndash; مصادرة واقعية (de facte) لأموالهم، ذلك لأنهم لم يعتقدوا أبداً أن نظام الحكم المصرى سوف يدفع لهم فعلا ما نص عليه قرار التأميم من تعويض.
ونتيجة أخطاء قانونية فى قرار التأميم (سوف يلى توضيحها)، ونظرا للظروف الدولية والأوضاع السرية، فقد اضطـُر نظام الحكم المصري إلى شراء الأسهم التى كانت معروضة للبيع من حملة الأسهم (share holders) فى بورصة باريس، وكلفها ذلك غاليا، ثم إلى الدخول فى مفاوضات مع باقى حملة الأسهم، بدأت فى روما بتاريخ 19/12/1958، وانتهت إلى موافقة نظام الحكم المصرى على دفع تعويض لباقى حملة الأسهم قدره 81.2 مليون دولار، يُسدد على ستة أقساط، كان آخر قسط فيها محدداً لسداده تاريخ الأول من يناير 1963 (المرجع Colombia encyclopedia).
وما دام الأمر قد انتهى إلى أن يشترى نظام الحكم المصرى من حملة أسهم شركة قناة السويس ما فى أيديهم من أسهم بالثمن الذى حددوه، فإنه يكون ثـمّ بيع وشراء، ولا تأميم، فى المحصلة النهائية. (ثانياً) وقد ترتب على ما سُمىّ تأميماً أن أضطر نظام الحكم إلى قبول أمرين كلاهما مرّ. ذلك أنه بعد العدوان الثلاثى قبل القرار الصادر من مجلس الامن فى 8/11/1956بوضع قوات دولية للطوارىء، على أرض مصر وحسابها، حتى ينتهى النزاع بينها وبين اسرائيل؛ كما قبل اعطاء حق مرور السفن الاسرائيلية فى مضايق تيران وخليج العقبة، وهو ما كان نظام الحكم يعرف خطورته فأخفاه عن الشعب المصرى والشعب العربى تماماً، لأن العلم به كان يقلب ادعاء النصر على عقبيه ويظهر حقيقة الهزيمة. و (ثالثاً) لأن ما سُمىّ تأميماً لشركة قناة السويس أدى إلى حروب أربعة، وهى حرب 1956 ثم حرب 5 يونيو 1967 التى نشبت نتيجة لما قرره نظام الحكم المصرى من إزالة آثار الإتفاق السرى الذى أعطى لاسرائيل حق المرور فى خليج العقبة ومضايق تيران، فعمل على إغلاق هذه المضايق وذاك الخليج، أى إن حرب يونيو 1967 - التى جعلت من اسرائيل دولة عظمى - كانت أثرا من آثار ما سُمّى تأميم لقناة السويس. وآثار هذه الحرب أخطر من أن تـُنكر وأجلّ من من أن تـُحصر، وكل ما حدث ويحدث للعرب والمصريين من وقتها كان نتيجة لها، وسوف تتوالى الآثار وتتداعى العواقب مدة قرنين من الزمان على الأقل. ثم حرب الاستنزاف خلال عامى 1968، 1969 مما كانت نتيجته تهجير سكان خط القناة (من السويس والاسماعيلية وبورسعيد وبور فؤاد) بما ترتب على هذا التهجير من آثار اجتماعية رهيبة. ثم كانت حرب 1973 للتخفيف من النتائج شديدة السوء لحرب 1967.
ذكرتُ موجزاً لذلك ست مرات، ولم أكن أقصد تشهيراً أو تشنيعاً، وإنما كنت أهدف إلى تشكيل لجنة محايدة تتقصى الحقائق، وتطلـّع على كل الوثائق، ثم تعلن نتيجتها إلى الشعب المصري والشعب العربى، ليكون على بينة من حقيقة ما حدث فيما يقال إنه تأميم لشركة قناة السويس، وما أعقب ذلك من أحداث وقعت نتيجة لهذا القرار. وفى تصورى أن الرئيس جمال عبد الناصر كان حسن النية فيما يفعل، لكن المثل يجرى على أن الطريق إلى جهنم مرصوف بالنوايا الطيبة، وفى خلاف حدث عام 1961 بين الرئيس المصرى وأمين الحزب الشيوعى للإتحاد السوفيتى نيكيتا خروشتيشيف (المشهور عند العرب باسم خروشوف) وكانا حليفين، قال عن الرئيس المصرى: إنه شاب مندفع وقليل الخبرة، وهو ما يلقى الضوء ndash; من خبير وصديق ndash; على الأسلوب الذى اتـّبع فى تأميم شركة قناة السويس قبل قوله هذا بست سنوات.
مساء الخميس 14 فبراير 2008 كنت أقلب قنوات التلفاز فوقعت عيناى صدفة على الحديث الذى يلقيه أسبوعيا من قناة الجزيرة الأستاذ محمد حسنين هيكل، وسمعت كلمة فهمت منها أنه سوف يتناول فى حديثه مسألة تأميم شركة قناة السويس، فشاهدْت الحديث فى الليلة المذكورة وفى الأسبوع التالى، لعلى أجد شيئاً مفيداً، لكنى سمعت حديثاً مضطرباً يحوم حول الموضوع ولا يدخل فيه بجدية، وانما يقفز فيه المتحدث من نقطة إلى أخرى، دون تمهيد وبغير ارتباط واضح وممنهج. ولست أدرى إن كان هذا الأسلوب فى القفز بين نقاط الموضوع وعدم اتـّباع الحديث خطا محدداً، لا يمتلىء بالقفزات التى تكون قبل اتمام الجملة، ودون رابط أو لزوم، قد حدث عفوا أو عمداً، بقصد عدم إيضاح نقاط الموضوع، نقطة نقطة، وتشتيت المشاهد فى استعراضات وادعاءات، لا تتصل بالسياق صلة ضرورية. والمتحدث فضلا عن ذلك يكثر من استعمال لفظ (أنا) دون سبب، وبغير أن تكون ذاته عنصراً فى الموضوع أو الحديث، وهو أمر يعرف دلالته كل من له صلة بعلم النفس.
وإضافة إلى هذا الاسلوب الذى يجعل الحديث لغوا بغير طائل، فإن المتحدث وقع فى أخطاء كثيرة، يقصر المجال عن بيانها كلها وتتبعها جميعاً، ومن ثم نتخير منها ما يلي:
(أ) فهو يقول إن التأميم لم يكن بالبساطة التى جاءت فى أغنية عبد الحليم حافظ (قلنا حنبنى وأدى احنا بنينا السد السد العالي). لكنه يعرف تماماً أن نظام الحكم الذى كان يشارك فيه أو يشير عليه هو الذى صورّ التأميم على النحو الذى ورد فى تلك الأغنية، وأن اذاعاته الرسمية كان تذيع هذه الأغنية صباح مساء كل يوم، حتى وقـَر فى أذهان الشعب أن التأميم كان فعلاً بالبساطة التى وردت فى الأغنية. فماذا فعل هو وقد كان إلى جوار نظام الحكم، شريكا أو مشيراً؟ ولماذا لم يقل ما قاله عن التأميم والأغنية من قبل، أو ينبه إلى ضرورة فكّ الارتباط بين ما حدث فى الواقع وما صوّرته الأغنية؟ إن نظام الحكم أراد، ولمدد طويلة استمرت حتى أغلق مضايق تيران، اقناع الشعب بمفهوم ومضمون الأغنية ؛ وهذه جناية السياسة على الفن، وجناية الفن على الحقيقة.
(ب) ويقول أن إيدن رئيس وزراء بريطانيا تلقى نبأ التأميم وهو يجلس إلى مائدة عشاء فى مقر الرياسة (10 داوننج ستريت) مع ملك العراق السابق وصحبه، ثم يضيف دون ضرورة أو لزوم: إنه (أى المتحدث) يعرف هذه القاعة (أى قاعة الطعام) وأنه تناول فيها الطعام عشرات المرات. وقاعة الطعام فى مبنى رياسة مجلس وزراء بريطانيا مخصصة للمناسبات الرسمية وليست مفتوحة للجمهور يتناول فيها الطعام من يشاء، وتناول المتحدث الطعام فيها عشرات المرات أمر مُبالغ فيه، فضلا عن أنه لا يتصل بموضوع التأميم. يضاف إلى ذلك أنه لا يُزيد المتحدث شيئاً أن يتناول الطعام فى القاعة المخصصة لذلك بمبنى رياسة وزراء بريطانيا مرة أو مرتين أو عشرات المرات كما ذكر ؛ كما لا ينقصه شيئاً أن لا يعرف هذه القاعة إطلاقا ولم يتناول فيها الطعام قط.
(ج) وهو يقول إنه سار فى الشارع فيما بين منزل دزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا ومنزل روتشيلد المصرفى الشهير عدة مرات، بل وظهر على الشاشة رسم تخطيطى لهذا الطريق، ليؤكد بذلك أن دزرائيلى سار فيه إلى منزل روتشيلد ليحصل على مبلغ 40.000 جنية استرلينى يشترى بها حصة مصر فى أسهم شركة قناة السويس، وهى تبلغ 44٪ من عدد هذه الأسهم.
والحقيقة فى ذلك أن دزرائيلى لم يذهب إلى روتشيلد ليستقرضه المبلغ، لكنه علم أن الخديوى اسماعيل يعرض فى فرنسا بيع أسهم مصر ليسدد بثمن البيع بعض الديون التى استـُحقت على مصر جراء سياسته، فأراد دزرائيلي أن يشترى هذه الأسهم لتكون لبريطانيا. وتحسّبا لطول الاجراءات القانونية (فى مجلس العموم وغيره) فقد أرسل سكرتيره مونتاجو كورى إلى منزل روتشيلد يطلب منه القرض، فشحب وجه هذا وسأل وما ضمانى لسداد القرض، فلما أجاب مونتاجو كورى: الحكومة البريطانية، رد روتشيلد على الفور: إذن ستحصل على المبلغ (المرجع the Suez canal brief history مؤشر البحث yahoo , mid east website policy.
(د) وهو يعرّض بزوج (زوجة) إيدن، إذ يقول إنه تزوجها لأنها ابنة أخ تشرشل، رغم ما كان يدور حولها من إشاعات، ثم يضيف (لا داعى لذكرها). وهو اسلوب لا يليق أن يصدر من متحدث جاد محترم، خاصة وأنه لا يتصل بالسياق ولا يرتبط بالموضوع، بحيث كان يختلف وجه النظر فيه لو لم يُلـّمح إلى هذه الاشاعات.
(هـ) وهو يقول إن حصة الفرنسيين من أسهم شركة القناة لم تكن كبيرة، فكم كانت بالضبط وهو العليم ببواطن الأمور الخبير بكل شىء على وجه التحديد؟ ألم يكن من الأجدى لصدقية الحديث أن يحدد عدد هذه الأسهم تحديداً دقيقاً؟ لا أن يقلل منها بأسلوب العامة الذى لا يفيد شيئاً ولا يزيد علما ولا يغير واقعاً.
(و) وهو يقول (احنا ما أخدناش بالنا من اتفاقية القسطنطينية) دون أن يعترف أن الاطـّلاع على كل أوراق الملف الخاص بشركة قناة السويس كان ضرورة لابد منـْها قبل اتخاذ أى قرار. وهذا الملف موجود ضرورة فى وزراة الخارجية المصرية. فضلا عن أن أيا من القانونيين، ومنهم الدكتور حلمى بهجت بدوى، الذى ذكر إسمه وظهرت على الشاشة صورته، كان يعرف ذلك ولا شك (وهذه الاتفاقية منشورة الآن على كل مواقع البحث الالكترونى) وكان يلزم للمتحدث أن يكون على علم بها يوم كان صحافيا فى دار أخبار اليوم حين صدر قرار الأمم المتحدة رقم 9 بتاريخ 1/9/ 1951، وهو يلزم مصر فتح المرور فى قناة السويس أمام السفن الاسرائيلية بناء على اتفاقية القسطنطينية الموقعة من السلطة العثمانية التى كانت تحتل مصر بتاريخ 2/3/1888.
(ز) وهو يقول أن لجانا قانونية وإدارية كانت تنعقد فى وقت واحد، دون أن يذكر تواريخ اجتماع هذه اللجان ليعرف المستمع والمشاهد إن كان ذلك قد حدث قبل اقرار التأميم أم بعده؟ وذكـْر التواريخ مهمّ جداً فى التوثيق والتحقيق والتدقيق. كما أنه يقول إن بعض أعضاء مجلس قيادة الانقلاب (الذى سُمىّ بالحركة المباركة ثم سُمىّ ثورة الجيش، ولم يُذكر تعبير ثورة الشعب إلا فى مقدمة دستور 1956) قد اعترض على هذا القرار، دون أن يذكر اسماء المعترضين وبماذا اعترضوا، وهل كانت اعتراضاتهم قبل اتخاذ القرار أم كان ذلك عصر يوم 26 يوليو 1956. كما يقول إن وزير العدل والدكتور الشرباصى كانا يفضلان ألا يكون التأميم مرتبطا بسحب تمويل انشاء السد العالى، فمتى حدث ذلك منهما، مع أن الرئيس المصرى كان قد ذكره فى خطاب التأميم؟ وإذا كان المتحدث قد كتب عن ذلك، فهو لم يذكر متى كتب وبأى مناسبة كانت الكتابة؟ وهو لم ينتبه إلى أن ذلك كان يتعارض مع الخطاب الذى ألقاه الرئيس المصري وأعلن فيه قرار التأميم؟ أليس فى هذا صورة واضحة عن التضارب الذى اكتنف مسألة التأميم بحيث يُسقط صدقية (مصداقية) كل قول عنه وأى حديث فيه؟
وفى الحديث الثانى مساء الخميس 21 فبراير 2008 انتقل المتحدث إلى حالة الحرب دون أن يستكمل حديثه عن واقعة تأميم شركة قناة السويس. لكنه فيما ذكر عن الحرب قال إن اسرائيل أعدت خطة حربية للعدوان على مصر من قبل. والحقيقة انها وضعت هذه الخطة منذ أن صرح الرئيس المصرى بتاريخ 31/8/ 1958 بتوقيع اتفاقية تسليح الجيش المصرى بمعدات تشيكية، أى من شيكوسلوفاكيا مع أنها كانت فى الحقيقة مع الاتحاد السوڤيتى (وبيان تفاصيل هذه الصفقة موجود على مؤشرات البحث الالكترونى يمكن لمن يشاء أن يطـّلع عليها). ومفاد ماقال اننا أمام أعداء يستعدون مُسبقا، ويتجهزون قبل وقوع الحدث، ويستجمعون المعدات والأصدقاء كى لا يكون ردّهم أو عدوانهم كنمر من ورق أو أسد من رمال، أو مجرد خطب ومحض كلام وترديد أغانى وأناشيد.
وفى هذه المرة كذلك وقع المتحدث فى أخطاء كثيرة نجتزىء منها الآتي:
(أzwnj;)فهو يقول إن رأى إيدن رئيس وزراء بريطانيا أن الشعب المصرى شعب غير محارب، ثم يعقب هو فيقول أن إيدن فى ذلك مثل الدكتور حسين فوزى (السندباد المصرى). ورأى الدكتور حسين فوزى الذى سمعته منه مرارا وتكرارا، والثابت فى كتابه (سندباد مصرى) أن الشعب المصرى صانع حضارة وليس مُوقد حروب. ولم يذكر أبدا أن الشعب المصرى لا يكون إلا فلاحاً، كما ادعى المتحدث.
(ب)وهو يقول إن خطة إسرائيل لغزو مصر كانت تسمى قادش، ثم يضيف أن قادش مدينة على حدود مصر، وهى التى خرج منها العبرانيون مع موسى، ومن ثم فإن للإسم دلالة عند الاسرائيليين. وحقيقة الأمر أن قادش تقع فى الأراضى السورية، وليست على حدود مصر، إنما إلى الجنوب الغربى من بلدة حمص، وفيها وقعت معركة قادش بين رمسيس الثاني والحيثيين عام 1275 ق.م والتى انتهت بالنصر المؤزر لرمسيس الثاني. وإذ كان بعض اليهود يظنون أن رمسيس الثانى هو الفرعون الذى فى عصره أُخرج العبرانيين من مصر، فإن أى معنى فى ذهنهم قد يكون مرتبطا بهذه الوقائع.
(ج) وهو يقول إن خطة اسرائيل كانت تسمى قادش، وأنه كانت لفرنسا خطة أخرى باسم (musketeer) أى الفارس، وأنه عندما اشتركت اسرائيل وفرنسا وبريطانيا فى العدوان على مصر ndash; نتيجة برتوكول سيفر ndash; فقد سُميت الخطة (الفرسان الثلاثة three musketeers). والحقيقة أن اسرائيل نفذت خطتها المسماه قادش يوم 29/10/1956، وأن كلا من بريطانيا وفرنسا نفـّذا خططهما، فرنسا تحت اسم الفارس musketeer (بالمفرد ودون جمع، أى باسم الفارس وليس الفرسان الثلاثة) ونفذت بريطانيا خطتها التى كانت تسمى تسلكوب (operation telescope).
(المرجع Suez crisis ndash; wikipedia , the free encyclopedia).
(للدراسة بقية).
Email:
[email protected]
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه