على ذمة الراوي أنه في العام (1955) وأثناء مؤتمر باندونغ أطلع الصحفي الهندي ديل كارينجا الرئيس جمال عبد الناصر على وثائق سرية لمخططات إسرائيلية ترمي إلى تفتيت الدول العربية ndash; كل على حدة- إلى كانتونات ودويلات قبلية وطائفية، لتؤكد للعالم أن العرب لا يتعايشون مع المختلف عنهم دينيا أو مذهبيا أو أثنيا، وتصبح في الوقت ذاته إسرائيل الدولة الأكبر والأقوى في المنطقة العربية. لكن هذا الكتاب الذي أسماه صاحبه الصحفي الهندي (خنجر إسرائيل) لم ير النور في بلداننا العربية إلا بعد حرب (1967) التي زلزلت الكيان والإنسان العربي، وقلبت موازينه الاجتماعية والنفسية، ومهدت الطريق بقوة لتفشي الفساد والقهر والاستبداد، وانتشار الفكر الغيبي، والأيديولوجيا الشمولية، والحركات الدينية السياسية.
إن إسرائيل دولة عدوة اغتصبت أرضا عربية وشردت أهلها. والحرب معها ما زالت منذ ستين عاما معلنة وقائمة. وإذا كانت مصلحتها تقتضي تفتيت أعدائها العرب وإضعافهم، وبذر أسباب الخلاف فيما بينهم، وتشويه سمعتهم وصورتهم! فما مصلحة أبناء جلدتنا في تمزيقنا، وإشعال نار العداوة والحروب بيننا، وتشويه صورتنا وإضعافنا؟ وهل تستطيع إسرائيل تفتيتنا لولا ثقافة البغضاء وشهوة الأطماع فينا، ودون مساعدة من داخلنا؟ وهل تُلام إسرائيل في بذر الخلاف بيننا، أكثر مما يُلام من يدّعون أنهم إخواننا، أو أنهم شركاءنا في الأرض والماء والهواء والوطن؟
لم تكن مسؤولية إسرائيل عن عجزنا وتخلفنا وجهلنا، بأكثر من مسؤولية سراديبنا وأنفاقنا وكهوفنا التي أدمنّا العيش في ظلامها وعزلتها، واستحلينا رطوبتها وعفونتها، وبأكثر من مسؤولية جننا وخرافاتنا التي عطّلت عقولنا، وسيطرت على تفكيرنا، ووجهت مسار حياتنا! وبأكثر من مسؤولية أشياخنا وأنظمتنا وموروثاتنا التي استرخصت الإنسان، وأنكرت حقوقه، وقيدت حريته، واحتقرت خياراته.
ولم تكن مسؤولية إسرائيل في تقسيم ما تبقى من فلسطين إلى دويلتين، بأكثر من مسؤولية فتح وحماس وباقي المنظمات، في إضرام نار الفتنة والاتهام والتخوين بين الفلسطينيين، والاقتتال فيما بينهم، واستباحة دماء بعضهم بعضا. ولم تكن شهوة الأطماع الإسرائيلية أكثر اتقادا من شهوة الأطماع الشخصية والحزبية والسلطوية الفلسطينية. فظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء والنفس من ظلم الأعداء.
ولم تكن مسؤولية إسرائيل في تقسيم العراق- عمليا وواقعيا- إلى دويلات ثلاث بأكثر من مسؤولية الذين مارسوا سياسة الاضطهاد والتمييز، والتهميش والتكفير بين أبناء الشعب العراقي، وبأكثر من مسؤولية العرب والعراقيين النافخين في كور الخلافات التاريخية، والخلافات المذهبية والقومية بين السنة والشيعة والأكراد وباقي أطياف المجتمع العراقي. فلم تروج إسرائيل للكراهية بين السنة والشيعة والمسيحيين وباقي المذاهب والأديان، وبين العرب والأكراد وباقي الأثنيات، أكثر مما روّج ويروّج أعداء الله والإنسان، والخبثاء والسياسيون الانتهازيون الطامعون. ولم تهجّر إسرائيل من العراقيين كما هجّر منهم الانتحاريون والمتقاتلون العرب والعراقيون. ولم تقتل من الشعب العراقي والفقراء، أكثر مما قتل التكفيريون و(الاستشهاديون) والعصابات المسلحة الطائفية. في دور العزاء والأحياء والمدارس، وفي دور العبادة والأسواق الشعبية.
ولم تكن مسؤولية إسرائيل في الحرب الأهلية اللبنانية السابقة- ونرجو ألا تكون لاحقة- بأكثر من مسؤولية الزعماء السياسيين والدينيين والطائفيين اللبنانيين، والدكاكين العربية، وأصحاب الشعارات التضليلية التحريضية، أولئك الذين أذكوا نار الحرب خمسة عشر عاما، ورقصوا على دقات طبولها، واغتنوا من إسالة دماء قتلاها.
ولم تكن مسؤولية إسرائيل في إيقاد نار الخلافات والبغضاء بين المصريين الأقباط والمسلمين، بأكثر من مسؤولية بعض المصريين الذين يستغلون الجرائد والقوانين، ويشيعون الكراهية والاستهزاء، ومقولات التفوق الديني، وتفضيل الغريب على القريب.
ولم تكن مسؤولية إسرائيل في الحروب السابقة والحالية السودانية، وتقسيم السودان إلى شمال وغرب وجنوب، وإفقار أهله، بأكثر من مسؤولية بعض السودانيين من طلاب السلطة والزعامة، وأدعياء القومية والدين. وبأكثر من مسؤولية الأعراب الذين استباحوا واستحلوا دماء الجزائريين والمغاربة، وحولوا الصومال إلى خراب، وهدروا دماء الصوماليين واليمنيين. والذين فجروا المجمعات السكنية في السعودية لم يكونوا إسرائيليين بل أعرابا تكفيريين متأسلمين.
[email protected]
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية