من الصعب على كثيرين في المنطقة العربية استيعاب ما قاله الملك عبدالله الثاني في واشنطن عن العراق وعن مخاطر التدخل الايراني في هذا البلد وانعكاسه على المنطقة كلها. ومعظم الذين لم يفهمواما قاله العاهل الاردني هم من اولئك الذين لا يريدون القراءة ولا يريدون السعي الى التمعن في النص السياسي هذا اذا كانوا قادرين على فهم النص. اضافة الى ذلك, هناك ذوو النيات السيئة الذين يعترضون على كل ما يصدر عن الاردن لانهم معادون لكل ما هو حضاري وعصري. انها بكل بساطة عقدة الاردن.
ما قاله الملك عبدالله الثاني في واشنطن، اكان ذلك عبر مقابلة تلفزيونية واخرى مع "واشنطن بوست" يصب في اتجاه التحذير من خطر تحويل الانتخابات العراقية عما يفترض ان يكون هدفها الاصلي. اي ان تكون هذه الانتخابات خطوة في اتجاه استعادة البلد توازنه وبعض استقراره بدل ان تكون هذه الانتخابات وسيلة لاقامة "جمهورية اسلامية" في العراق على النسق الايراني... وهي جمهورية الملالي الذين حلوا مكان رجال الشاه والطبقة المستفيدة في عهده لا اكثر ولا اقل.
ما يهدف اليه كلام العاهل الاردني تحذير الاميركيين وغير الاميركيين من ان هناك محاولات واضحة لاستغلال ما حصل في العراق حيث استطاع الجيش الاميركي اسقاط نظام صدام حسين، وذلك من اجل نشر دعوات مذهبية وقلب المعادلات التي قام عليها الشرق الاوسط. ما العيب في التحذير؟ هل الحرص على الاستقرار والتوازنات في المنطقة صار جريمة ام ان الجريمة تكمن في اقامة انظمة على اساس مذهبي والسعي الى نشر الدعوات المذهبية عبر احزاب معينة ليس فيها عضو واحد من خارج مذهب معين.
ان مثل هذه الانظمة ومثل هذه الاحزاب هي التي تخدم المخططات الاسرائيلية في ختام المطاف. ولذلك نجد ان اسرائيل لا تغذي سوى هذه الاحزاب عبر توفير "انتصارات" لها كونها تعرف جيداً ان هذه الاحزاب حليف موضوعي لها مهما ارتفع صوتها ومهما رفعت شعارات من نوع "الموت لاسرائيل" و"الموت لاميركا". واذا عدنا قليلاً الى خلف، نجد ان اسرائيل لم تدعم يوما، اكان ذلك في لبنان او غير لبنان، سوى احزاب طائفية ومذهبية واعتبرت دائماً الاحزاب ذات الطابع الوطني والقومي في صف اعدائها. ولذلك ليس غريباً ان يتضايق من كلام العاهل الاردني اولئك الذين يتشدقون بالشعارات الوطنية الفارغة والذين يخدمون في النهاية اسرائيل المؤمنة بضرورة ان تكون هناك مشاريع مذهبية وطائفية للمنطقة.
ما قاله الملك عبدالله الثاني يصب بكل بساطة في خدمة العراق ومستقبل العراق، وليس صدفة ان يكون كلام الرئيس العراقي الموقت الشيخ غازي عجيل الياور في الاتجاه ذاته. واذا كان لا بد من توفير شرح مبسط لما ورد على لسان العاهل الاردني، يمكن القول ان الزعيم العربي دعا الى اجراء انتخابات في العراق والى مشاركة الجميع في هذه الانتخابات وان يفوز فيها من يحظى بالاكثرية بغض النظر عن الطائفة والمذهب والمنطقة والقومية. لكن هذه الانتخابات يجب الا تكون مطية لأحد ووسيلة لاستغلال الاحتلال الاميركي للبلد من اجل تنفيذ مآرب لا علاقة لها لا بالمصلحة العراقية ولا بالمصلحة العربية عموما. اكثر من ذلك ان المطلوب من الانتخابات ان تؤدي الى المحافظة على حقوق المواطن العراقي بغض النظر عمن يفوز فيها وبغض النظر عن مذهب هذا المواطن او طائفته وقوميته.
هل تكون الانتخابات العراقية جسرا للعراق من اجل المصالحة مع المستقبل اي مع كل ما هو حضاري وعصري، ام تكون نقطة تحول في اتجاه تكريس حال التشرذم والانفلات الامني التي يعاني منها البلد بعد انفلات كل الغرائز فيه من جهة وسعي جهات اقليمية الى الهيمنة عليه من جهة اخرى؟
في النهاية ان الملك عبدالله الثاني هو احد الزعماء العرب القلائل القادرين على التحدث مع العالم المتقدم بلغته. وهذا عائد الى حد كبير الى الجرأة والى ان ليس لدى الرجل ما يخفيه او ما يستحي به، وهو يدرك ان المواقف الطليعية التي اتخذها بلده في مرحلة ما اعتمدها غيره بعد عشر سنوات او اكثر. من بين الدول العربية سارع الى اعادة العلاقات مع مصر ومد الجسور معها بعد توقيع القاهرة معاهدة السلام مع اسرائيل؟ لماذا انتظر الآخرون كل هذا الوقت كي يحذوا حذو الاردن ويعودوا الى مصر او تعود مصر اليهم ما دام ليس في الامكان عزلها؟
ربح الاردن دائما وربح معه العرب عندما اتخذ مواقف طليعية لا حاجة الى تعدادها الآن. وخسر الاردن وخسر معه العرب عندما حاول تنبيههم ولم يسمعوا فانقاد معهم مضطرا خلف الشعارات الفارغة من نوع "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". حصل ذلك في العام 1967، وتعلم الاردن درساً لن ينساه، والامل في ان يتعلم الآن الآخرون. والخطوة الاولى كي يتعلموا تكون بالتخلص من عقدة اسمها عقدة الاردن.
- آخر تحديث :
التعليقات