د. إحسان الطرابلسي
&
&
بلغ من شدة حرص الأعراب على تطبيق الدستور العربي "المقدس" في كافة البلدان العربية، أن أصبح شغلهم الشاغل هذه الأيام هو الدستور العراقي الجديد المزمع وضعه هذه السنة. ولكن هؤلاء "الأعراب المتدسترين" لا يتحدثون عن ما يجب أن يتضمن هذا الدستور كما فعل بوعي واخلاص مفكرنا الكبير العفيف الأخضر عندما ناشد العراقيين (إيلاف 12/4/2003) بأن يتضمن دستورهم الجديد للعراق الجديد القطيعة مع التراث السياسي الماضي من سحل وثأر ومقابر جماعية، والانتقال من الفاشية إلى الديمقراطية، وعدم اعادة بناء جيش صدام الذي تفكك، وعدم العودة إلى الدولة المركزية الديكتاتورية، واقرار حكم الطوائف والأقليات الديمقراطية، واقامة حكم فيدرالي ديمقراطي علماني حر، واقرار نظام تعليم ديمقراطي وعلماني.
نعم، الأعراب غير مهتمين بالمواد التي سيتضمنها الدستور العراقي، بقدر ما هم مهتمون بمن سيضع هذا الدستور؟
هل سيضعه بريمر باشا؟
يتساءلون باستنكار!
أم ستضعه لجنة من القانونيين والحقوقيين الضالعين العراقيين؟
يتساءلون بشك وريبة!
وهل سيكون تحت اشراف امريكي؟
يتساءلون بيقين!
وهل سيكون للأمريكيين تأثير على مواد هذا الدستور ؟
يتساءلون بتأكيد!
فالأعراب يهمهم بالدرجة الأولى، من الذي سيضع الدستور، وليس ماهية هذا الدستور، ومدى فائدة مواده على المواطن العراقي، وعلى العراق الجديد؟
وبما أن الدساتير العربية جميعها إن وُجدت في العالم العربي هي من وضع الأعراب سادة القوانين والدساتير وحقوق الانسان في العالم - وليست صوراً منسوخة بالكامل من دساتير البلدان الأوروبية وعلى رأسها فرنسا وبلجيكا وبريطانيا، ورغم ذلك فإن هذه الدساتير تداس بالبساطير ولا احد يعمل بها، وتُلغى وتُعدّل وتُشطب وتُحجب كما يريد الحاكم، فإن الأعراب حريصون أشد الحرص على أن يكون من يضع الدستور العراقي هم من العراقيين الخُلّص الأصفياء صفاء العسل الحضرمي!
فالأعراب مشغولون دائماً بمن ألّف الكتاب، وليس بما يحتويه الكتاب. ولقد قضوا ردحاً طويلاً من الزمن وهم يتحاورون ويتجادلون في الكتب المقدسة وغير المقدسة، من وضعها، ومن كتبها، قبل أن يقولوا لنا ما الفائدة من هذه الكتب، وما هي النتيجة المرجوة منها، وهل هي تطابق الحق والحقيقة أم لا تطابقهما؟
ما يهم الأعراب، وما يُشغل بالهم، هو أن لا تضع أمريكا يدها في الدستور العراقي، علماً بأن وضع امريكا يدها في الدستور العراقي الجديد من خلال خبرائها الدستوريين، ومحاميها، ورجال قانونها، الذين هم خلاصة رجال القانون الأوروبيين وزُبدة الفكر القانوني والحقوقي الانساني سوف يجعل من الدستور العراقي ليس مسخاً كما هو الحال في معظم الدساتير العربية التي تدوسها كل يوم بساطير الحكام، وتلعب فيها لعب الغلمان بالعيدان، ولكنها ستجعل منه دستوراً محترماً، لا يقوى عليه العُتاةُ بالتعديل، ولا البُغاةُ بالتبديل، ولا الزُناةُ بالتقليل، ولا العُصاةُ بالتفشيل.
ولماذا لا نعترف نحن الأعراب، اعتراف الخاطئة التائبة توبة نصوحة، بأننا أمة لا علاقة لها بالقانون وبالدستور، وأننا نُسيّر حياتنا بالعُرف والعادة وبتراث السلف، وأننا لم نضع لأنفسنا دستوراً واحداً طوال تاريخنا الممتد لأكثر من خمسة عشر قرناً. وأننا نصيح ونهتف حتى الآن في الشارع العربي بأن "دستورنا هو القرآن"، ولا كتاب غيره، بمعنى أننا لم نضع لأنفسنا دستوراً واحداً. وأنه لا يوجد في القاموس العربي كلمة "دستور". وأن كلمة دستور كلمة فارسية، وليست عربية، ولم نعرفها إلا في العصر الحديث (القرن التاسع عشر) ومعناها الميثاق الموضوع للجماعات للالتزام والعمل به؟
فبأي حق يهدر الأعراب وقتهم الثمين المُكرّس للعمل والمعرفة والبناء والانشاء في تُرّهات وشكليات لا معنى ولا طعم لها، كمسألة الدستور العراقي الجديد؟!
هل هي الخشية من أن تتمخض الحملة على العراق بوضع نظام ديمقراطي حقيقي بدستور ديمقراطي حقيقي، يكفل الحقوق ويفرض الواجبات على الجميع، من رأس الدولة إلى حاجب باب الدولة، دون تمييز كما هو في بلاد عباد الله الصالحين؟
هل هو الخوف من أن تصبح الدساتير العربية الموقرة الآن مسخرة وفقاعات صابون وحبر على ورق، أمام الدستور العراقي الجديد، مما سوف يفتح الباب أمام المطالبة إن وُجد من يطالب - بوضع دستور جديد لباقي البلدان العربية، يحترم الانسان وقيمه ومبادئه؟
هل هي الخشية من يصبح الدستور العراقي المثال الأعلى الذي يطمح كل مواطن عربي من المحيط إلى الخليج بالعيش في ظله وتحت سقفه، دون خوف أو وجل من حاكم يُعدّله لكي يصبح صالحاً لتولي ولي عهده غير الراشد، أو ليصبح صالحاً لكي يتولّى الحاكم الحكم مدى الحياة، أو ليُجدد الحاكم ولايته للمرة الرابعة والخامسة والسادسة وإلى ما شاء الله.
لقد أصبح الدستور العربي للحكام العرب هو المبخرة التي يتبخّر بها الحاكم وقوانينه، وليس الضابط الذي يضبط خطوات الدولة ورأسها وشعبهـا.
ودستور يا أسيادنا!













التعليقات