جلال الماشطة
&
&
&
تخلّي ليبيا عن برامج الاسلحة غير التقليدية اثار ردود فعل واسعة عالميا، لكنه، عربياً، ظل على هامش الاهتمام او قوبل بالاندهاش او حتى الاستنكار، من دون ان تكون هناك محاولات جادة لفهم هذه "النقلة" النوعية.
ويرى محللون ينتمي بعضهم الى معسكر "التفسيرات التآمرية" ان ليبيا ادت دورا مرسوماً في مسرحية اخرجتها الولايات المتحدة على خشبتين: في بغداد وطرابلس، وارادت منها ان تقدم لدول الشرق الاوسط، ولخصومها عموماً، حلاً يقوم على الخيار بين التغيير القسري والنهاية المذلة المهينة والباهضة الاكلاف، كما في حال صدام، والتراجع المنتظم المؤدي الى تسوية غير دموية وإن لم تكن عناصر الاهانة غائبة عنها.
وذهب محللون آخرون الى ان اعتقال صدام حسين قضى على بقايا تردد لدى العقيد القذافي ودفعه الى الايعاز بانجاز مفاوضات سرية كانت تجريها مجموعات ليبية واميركية بريطانية في اوربا، وكان الهدف منها التوصل الى اتفاق يصفي برامج الاسلحة غير التقليدية "ويقضي على المخزون منها ان وجد" ولكن هذا الرأي يغفل ان المفاوضات بدأت منذ تسعة اشهر، أي انها سبقت اصطياد القائد الضرورة وان كانت تزامنت مع الحملة عليه وضده.
والتحليل الاخير قد يقود الى رأي مفاده ان القذافي ادرك، اخيراً، حجم التغيير في الموازنات الدولية وقرر الانحناء امام العاصفة والاندماج في تيار العولمة والكف عن المشاكسة.
الا ان مثل هذا الرأي لايفسر تقلبات مزاج القذافي الذي ظل طوال عقود يطمح الى زعامة الامة العربية ثم تخلى عن ذلك فجأة ليغدو "قائدا افريقيا" وتنازل اخيرا عن عدائه التقليدي لاسرائيله واميركا. وقد تبارى القذافي وصدام في الانفاق كل من اموال لاتخصه، على حركات سياسية حقيقية او وهمية والاغداق على افواج المداحين من ساسة وادباء وصحفيين، وقبول طرابلس بالامر الواقع لن يعيد الى الشعب الليبي ما اهدر من نفوس واموال على نزاعات خارجية وداخلية، ولن يعوض عن سلب الحريات وقمع الفكر وحشر الشعب الليبي في زاوية الفقر والتخلف.
والاهم من كل ذلك ان القرار الليبي يجب ان يقرأ في اطار اوسع، فهو يؤشر بوضوح الى واحد من اهم اسباب الهزائم والاندحارات العربية: غياب المؤسسة وبقاء مصائر الشعوب والدول رهناً بارادة واهواء فرد واحد يلغي المؤسسة ويشطب على الشعب.
وهذه آفة اتت على مناقب واصلاحات فعلية قام بها ساسة وطنيون خلصت نياتهم بيد ان تمسكهم بالفردية شوه الاغراض وطمس النوايا وقاد الى التهلكة. وامامنا تجربة عبدالكريم قاسم الذي دشن في العراق بداية عهد الشرعية الثورية التي تقضي على حكم المؤسسة بحجة الدفاع عن مصالح عليا لايملك مفاتيحها الا الزعيم المصطفى. وقد فقد الرجل سلطته لانه اثر ان تبقى سلطة له وحده من دون منازع.
وادت اسباب مماثلة الى هزيمة حزيران عام 1967، فهي لم تكن فقط بسبب غياب عبدالحكيم عامر او انهيار القيادات العسكرية او تخاذل انظمة عربية واحجامها عن دعم الدول المحاربة. لقد كان سبب الهزيمة ان الانظمة التي قاتلت "او ادّعت القتال" كانت اما انظمة استبدادية او فردية وفي كل الاحوال لم تكن قائمة على حكم المؤسسة الذي يضمن التوازن ويضع الثقل والثقل المعادل ليمنع اتخاذ القرارات العشوائية الكيفية.
وقد بلغت هذه الحال ذروتها على العهد الصدامي الذي اختزل الدولة وتاريخها، وليس نظام الحكم وحده، في فرد اريد له ان يكون رمزا للعراق منذ فجر التاريخ والى ابد الابدين. وكانت تجربة ليبيا صورة مصغرة ومخفضة عما جرى في العراق، لكنها في جوهرها المتعلق بالغاء الحكم المؤسسي لاتختلف عن سابقاتها.
ومن هنا ينبغي ان نقرأ ردود الفعل العربية المستنكرة والمستغربة والمعترضة، على سقوط صدام و"استحالة" القذافي، على انها امتداد لحالة عربية مرضية مفادها ان هناك افرادا او" نخبا" يحملون مفاتيح الحقيقة وقادرون على سوق شعوبهم الى ابواب الجنة بالعصا او بالسيف.
ولعل العقل العربي، بعد هذه التجارب المريرة، يبدأ بصياغة مشروع نهضوي جديد مفاده ان البناء السليم لابد ان يرتكز على قاعدة صلبة اسمها المؤسسة، وليس على وتد او خازوق، مهما بدا عالياً.
ويرى محللون ينتمي بعضهم الى معسكر "التفسيرات التآمرية" ان ليبيا ادت دورا مرسوماً في مسرحية اخرجتها الولايات المتحدة على خشبتين: في بغداد وطرابلس، وارادت منها ان تقدم لدول الشرق الاوسط، ولخصومها عموماً، حلاً يقوم على الخيار بين التغيير القسري والنهاية المذلة المهينة والباهضة الاكلاف، كما في حال صدام، والتراجع المنتظم المؤدي الى تسوية غير دموية وإن لم تكن عناصر الاهانة غائبة عنها.
وذهب محللون آخرون الى ان اعتقال صدام حسين قضى على بقايا تردد لدى العقيد القذافي ودفعه الى الايعاز بانجاز مفاوضات سرية كانت تجريها مجموعات ليبية واميركية بريطانية في اوربا، وكان الهدف منها التوصل الى اتفاق يصفي برامج الاسلحة غير التقليدية "ويقضي على المخزون منها ان وجد" ولكن هذا الرأي يغفل ان المفاوضات بدأت منذ تسعة اشهر، أي انها سبقت اصطياد القائد الضرورة وان كانت تزامنت مع الحملة عليه وضده.
والتحليل الاخير قد يقود الى رأي مفاده ان القذافي ادرك، اخيراً، حجم التغيير في الموازنات الدولية وقرر الانحناء امام العاصفة والاندماج في تيار العولمة والكف عن المشاكسة.
الا ان مثل هذا الرأي لايفسر تقلبات مزاج القذافي الذي ظل طوال عقود يطمح الى زعامة الامة العربية ثم تخلى عن ذلك فجأة ليغدو "قائدا افريقيا" وتنازل اخيرا عن عدائه التقليدي لاسرائيله واميركا. وقد تبارى القذافي وصدام في الانفاق كل من اموال لاتخصه، على حركات سياسية حقيقية او وهمية والاغداق على افواج المداحين من ساسة وادباء وصحفيين، وقبول طرابلس بالامر الواقع لن يعيد الى الشعب الليبي ما اهدر من نفوس واموال على نزاعات خارجية وداخلية، ولن يعوض عن سلب الحريات وقمع الفكر وحشر الشعب الليبي في زاوية الفقر والتخلف.
والاهم من كل ذلك ان القرار الليبي يجب ان يقرأ في اطار اوسع، فهو يؤشر بوضوح الى واحد من اهم اسباب الهزائم والاندحارات العربية: غياب المؤسسة وبقاء مصائر الشعوب والدول رهناً بارادة واهواء فرد واحد يلغي المؤسسة ويشطب على الشعب.
وهذه آفة اتت على مناقب واصلاحات فعلية قام بها ساسة وطنيون خلصت نياتهم بيد ان تمسكهم بالفردية شوه الاغراض وطمس النوايا وقاد الى التهلكة. وامامنا تجربة عبدالكريم قاسم الذي دشن في العراق بداية عهد الشرعية الثورية التي تقضي على حكم المؤسسة بحجة الدفاع عن مصالح عليا لايملك مفاتيحها الا الزعيم المصطفى. وقد فقد الرجل سلطته لانه اثر ان تبقى سلطة له وحده من دون منازع.
وادت اسباب مماثلة الى هزيمة حزيران عام 1967، فهي لم تكن فقط بسبب غياب عبدالحكيم عامر او انهيار القيادات العسكرية او تخاذل انظمة عربية واحجامها عن دعم الدول المحاربة. لقد كان سبب الهزيمة ان الانظمة التي قاتلت "او ادّعت القتال" كانت اما انظمة استبدادية او فردية وفي كل الاحوال لم تكن قائمة على حكم المؤسسة الذي يضمن التوازن ويضع الثقل والثقل المعادل ليمنع اتخاذ القرارات العشوائية الكيفية.
وقد بلغت هذه الحال ذروتها على العهد الصدامي الذي اختزل الدولة وتاريخها، وليس نظام الحكم وحده، في فرد اريد له ان يكون رمزا للعراق منذ فجر التاريخ والى ابد الابدين. وكانت تجربة ليبيا صورة مصغرة ومخفضة عما جرى في العراق، لكنها في جوهرها المتعلق بالغاء الحكم المؤسسي لاتختلف عن سابقاتها.
ومن هنا ينبغي ان نقرأ ردود الفعل العربية المستنكرة والمستغربة والمعترضة، على سقوط صدام و"استحالة" القذافي، على انها امتداد لحالة عربية مرضية مفادها ان هناك افرادا او" نخبا" يحملون مفاتيح الحقيقة وقادرون على سوق شعوبهم الى ابواب الجنة بالعصا او بالسيف.
ولعل العقل العربي، بعد هذه التجارب المريرة، يبدأ بصياغة مشروع نهضوي جديد مفاده ان البناء السليم لابد ان يرتكز على قاعدة صلبة اسمها المؤسسة، وليس على وتد او خازوق، مهما بدا عالياً.
&
تنشر بالاتفاق مع صحيفة "النهضة" البغدادية
التعليقات