بعد فوز القائمة الشيعية في الإنتخابات البرلمانية العراقية، تعاقبت على العراق حكومتان شيعيتان، قاد أولاهما إبراهيم الجعفري، والثانية يقودها المالكي لحد كتابة هذا المقال..والحكومتان تتحملان مسؤولية كل الدمار والخراب الذي حل بالعراق..
فمن الواضح لكل ذي بصر وبصيرة، أن وزارة الداخلية في حكومة الجعفري هي التي دشنت الحرب الطائفية في العراق، وزادتها سعيرا بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء. وشهد عهده القصير تشكيل فرق الموت السيئة الصيت، وأصبح مغاوير الداخلية هم سادة الشارع في العراق.. وجاء المالكي ليكمل المشوار عبر تعاون خفي مع قوى شيعية متطرفة، قد يكون الصدريون هذه المرة أحد أطرافها. فقد إتسم عهد المالكي بظاهرة الجثث المجهولة الهوية، وهي في الغالب لضحايا مغدورين كانوا يقتلون على أيدي عناصر تابعة لجهات ممثلة في الحكومة؟!. وأعتقد راسخا أن المالكي يعرف تماما من يقفون وراء هذا المسلسل الدموي من القتل العشوائي على الهوية، وأنه عامدا متعمدا لم يتحرك لوضع حد لها، إما لأنه عاجز عن محاسبة القوى التي تقف وراء هذه العمليات الدامية، أو أنه يشعر بالحاجة الى تلك الأطراف التي تنوب عنه في إيذاء الطرف الآخر، هذا إذا لم يشجعه للإيغال في تلك الجرائم. فإستمرار دوامة العنف الطائفي والقتل في الشوارع لم يعد طبيعيا.
في بلدان العالم قد تكون هناك جريمة واحدة في السنة تسجل ضد مجهول، وهذا بالطبع عندما يكون الجاني مجرما متمرسا يستطيع أن يخفي معالم جريمته، أما أن يرتكب مجرم واحد سلسلة من الجرائم اليومية يقتل خلالها كل يوم عشرات الأشخاص في بلد يوجد فيه جيش وشرطة وقوات أمنية كبيرة تؤازرهم قوات متعددة الجنسيات بعدد يربو على ربع مليون، فلعمري يكون المرء في منتهى السذاجة إذا تصور أن الحكومة غافلة عن هوية المنفذين الحقيقيين لهذه الجرائم، فلو سلمنا بعدم معرفة الحكومة بهوية منفذي هذه السلسلة من الجرائم اليومية التي تفوق بإعتقادي الجرائم الإرهابية للتكفيريين والصداميين، عندها يفترض بهذه الحكومة أن ترحل، لأنها تثبت بذلك فشلها الذريع في حماية أرواح الناس لأن دماء العراقيين ليست ماءا.
فلو إفترضنا أن حكومة المالكي لم تكن متورطة أصلا في المذابح اليومية في العراق، فإنها بالتأكيد عالمة بالجهات والأطراف التي تقوم بها، ولكنها تتستر على هوياتهم إما لأسباب سياسية ( توازنية ) ( توافقية ) على حساب مغدورين من أبناء الشعب، وإما لحاجة في نفس يعقوب، وهنا أيضا يفترض بهذه الحكومة أن ترحل لأنها تتستر على مجرمين بحق الشعب.
مع الإخفاقات المتتالية لحكومة المالكي منذ تسلمها السلطة بعد الإنتخابات الأخيرة، صدرت مواقف وردود أفعال متبابنة من عدة أطراف، سواء بالإنسحاب من الحكومة، أو بتوجيه الإنتقادات العنيفة وصلت مؤخرا الى حد المطالبة بإسقاط الحكومة الحالية.
في خضم هذه الأزمة الحكومية أطلق البعض من أصحاب القرار السياسي والكتل السياسية البرلمانية تحذيرات من إسقاط الحكومة بحجة عدم وجود بديل للمالكي؟؟؟!!!.. وهذه نكتة سخيفة جدا، فالرجل ليس فلتة زمانه حتى لا يكون له بديل خصوصا في العراق الذي سبق له أن استورد ملكا من الحجاز ليحكمه، وجاء بديل صدام الذي أدعي أنه لا بديل له على ظهر دبابة أمريكية من على بعد عشرة آلاف كيلومتر؟؟!!..
لا يظنن أحد بإدعائي تفضيل بديل محتل لهذه الحكومة، أو إستيراده من الدول العربية، فبنا ما يكفينا من بدائل في دولة العراق الإسلامية الطالبانية بأمير مؤمنيها ورئيس وزرائها ووزير ماليتها وإعلامها وزراعتها، وكذا الحال بالنسبة للبدائل المقيمة في دولة الإمارات العربية أو الاردن أو قطر، فأنا أعتقد أن الأرض العراقية لم ولن تعدم من وجود من هم مؤهلون أكثر من المالكي الخارج حزبه من تحت عباءة المرجعية بفتوى إنتخابية لقيادة البلد نحو الخلاص.
فمشكلة العراق تكمن كما نوهت مرارا في مقالات سابقة هي الصيغة المعتمدة في العملية السياسية المعروفة بـ(التوافق)!. فجميع مصائب هذا البلد متأتية من وراء هذه الصيغة السخيفة التي تتعارض تماما مع مبدأ الديمقراطية بنظري. فنحن نعلم أن الديمقراطية تعني حكم الأكثرية، وبقاء الأقلية في الجانب المعارض سواء داخل قبة البرلمان أو في الشارع السياسي، ولكننا نشهد اليوم في العراق تجربة غريبة وعجيبة تتمثل في إنعدام أي معارضة برلمانية حقيقية في إطار العملية السياسية،لأن جميع الكتل السياسية ممثلة في الحكومة بعربها وكردها وتركمانها، سنتها وشيعتها، وهم بمجملهم متخاصمون متعادون يشرب أحدهم من دم الآخر في النهار، ويتبادلون الكؤوس في الليالي الملاح ضحكا على ذقون الناس؟!.. فكل الكتل السياسية تريد أن تحكم، ولا يقتنع أي منها بدور المعارضة السلمية وكأن البلد كعكة يريد الكل أن يلحق بالإستحواذ على الجزء الأكبر منها؟؟!!!.
ومن الطرائف المضحكة المبكية، أن تتحول المعارضة الحقيقية الى الخارج رغم إدعاء الحكومة بوجود الديمقراطية والحريات السياسية في العراق؟؟!!.
هذه الصيغة التوافقية اللعينة خلطت الحابل بالنابل في العملية السياسية بالعراق وأوصلته الى حافة الهاوية السحيقة..يتقاتل الشيعة والسنة في شوارع بغداد جهارا نهارا، وغرف وزرائهم في الحكومة تتجاور بعضها مع بعض، وقد يتحلقون حول طاولة مجلس الوزراء ليبحثوا في مصير مفترض للبلد بعيدا عن سماع أصوات الرصاص التي تلعلع في الشوارع وهي تقتل سنيا أو شيعيا، وليس لهؤلاء الوزراء المتوافقين سوى الإطلالة على القنوات الفضائية وبينهم من يبارك ذلك التقاتل البغيض، ومنهم من يستنكر خجلا حرصا على سمعة العراق؟؟!!. وكل ذلك لا يتعدى عندي سوى نفاق سياسي.
لا أريد الخوض في مسألة الخلافات الممتدة منذ عشرات القرون بين السنة والشيعة لكي لا أزيد من سعير الفتنة الطائفية، ولكني أستغرب ممن يتصور أن تتعايش ميليشيات المهدي مع فلول البعث المنهار المرتبطين بقوى سنية متمثلة في الحكومة، وأن يتعايش أفراد منظمة بدر مع عناصر كتائب ثورة العشرين كحمائم يبنون أعشاشا متراصة على أشجار حديقة الزوراء يتبادلون فوقها أغصان الزيتون!.
طبعا أنا لا أقول بتهميش أي قوة أو قومية أو طائفة معينة من العملية السياسية، ولكننا لو رجعنا الى أسس ومباديء الديمقراطية الحقيقية سنجد أن من أبسط الأمور أن يكون الحكم للحزب أو الأحزاب الفائزة في الإنتخابات بالأكثرية، وأن تتحول الإقلية الحزبية الى دور المعارضة البرلمانية، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال يفوز مرشح الحزب الجمهوري بمنصب رئاسة البلاد ولو بفارق عدد ضئيل من الأصوات فيشكل الحكومة من أعضاء حزبه، ويتحول حزب المرشح الآخر الى المعارضة في الكونكرس، وقد يحصل فيه على دور أكبر في رسم سياسة البلاد من الحزب الفائز مرشحه بالمنصب.
ما جرى في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين الدكتاتوري شيء فريد ونادر لا وجود له في أي دولة بالعالم، أن تجتمع كل هذه القوى المتخاصمة والمتناحرة منذ عدة قرون في تشكيلة حكومية واحدة وبينهم هذا الإرث الكبير من الصراعات الطائفية والعنصرية وثأرات الدم؟؟!!. فأنا أعتقد أنه من الخطأ أن تسلم رشاشة مليئة بالطلقات بيد طفل صغير تعود اللعب برشاشات الدمى التي تطلق الخرز الصغيرة فيعمي عيون الآخرين متباهيا بشجاعته ودقته في التصويب،فكيف بهذا الطفل وقد إمتلك رشاشة حقيقية؟!. وقد تكون آلاف القطع من الأسلحة التي فقدت من وزارة الداخلية العراقية قد سلمت الى يد أطفال أحياء بغداد، والنتيجة هي ما نراه كل يوم عيانا من سقوط عشرات الضحايا جراء هذا العنف الطفولي الطائفي البغيض!!.
في العودة الى البديل، أنا لا أنتظر عودة المهدي المنتظرللعراق، فقد إنتظرنا ما فيه الكفاية ولم نزدد إلا ظلما وجورا، فالأمر غدا بيد الباريء عز شأنه وهو القادر على كل شيء إن أرادت مشيئته أن تنقذ البشرية من الجور والطغيان والظلم المتفشي، ولكني أعتقد أن البديل موجود هنا في الداخل ولسنا بحاجة الى إستيرادها لا من الخارج، ولا من تحت عباءة أي أحد، فهناك عشرات السياسيين القادرين على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا البلد، ولا أدعي أن يقودوا بسفينته الى شاطيء الأمان.
أنا طبعا لا أعرف تفاصيل الإتفاقات التوازنية بين القوى السياسية العراقية، وكيف يمكن تغيير هذه الحكومة، ولكني أعتقد أن بقاء هذه الحكومة الطائفية على هذا الحال من عدم الشعور بالمسؤولية، وتغليب الطائفية على الوطنية سيؤدي بالعراق الى التهلكة الفعلية ما لم تتحرك القوى السياسية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. وبصريح العبارة فإن ( الجعفري والمالكي) أثبتا فشلهما الذريع في وقف العنف الطائفي وتحسين الأوضاع الأمنية والسياسية في البلاد، أما البديل، فالعراق لم يعدم فيها رجالات وشخصيات قادرة على إعطاء أكثر مما أعطاه الجعفري أو المالكي بتوجهاتهما الطائفية، هناك حتى من داخل البيت الشيعي عادل عبدالمهدي مثلا، وهو رجل متزن تربطه علاقات جيدة بالكثير من الأطراف السياسية العراقية، ومن خارح هذا البيت هناك أياد علاوي، رجل سياسة غير طائفي متوازن ومقبول وصاحب خبرة جيدة كرئيس للوزراء أعتقد أن العراقيين خسروه بظلمهم الإنتخابي، وهناك رجال دولة أكراد مثل برهم صالح وهوشيار زيباري وغيرهما من المتجردين من العقد الطائفية والعنصرية،وهناك من السنة قادة متجردون بدورهم من الولاء الطائفي البغيض، فلماذا لا يوجد بديل من بين كل هؤلاء الرجال ليحتل مكان من قادوا البلاد نحو الهاوية بدل قيادته نحو السلام والإستقرار، فهل سنحول نوري المالكي الى دكتاتور آخر يحكمنا لخمس وثلاثين سنة قادمة؟؟؟!!!!!!!..
العراق بحاجة الى إنتزاع الرداء الطائفي عن حكومته، لأن التمسك بطائفية السلطة في العراق، هو بمثابة اللعب بالنار الذي سيحرق ما تبقى من اليابس بعد أن إحترق الأخضر برمته في العراق..
شيرزاد شيخاني
التعليقات