يبدو أن عقول بعض العراقيين خصوصا و جمعا من العرب معهم لم تزل أسيرة لتبعات و مؤثرات الفكر الفاشي و التربية الشمولية بما تتضمنه من جرعات كراهية هائلة و موجات لا تنقطع من الشكوك و الهواجس و الظنون؟ إضافة لروحية الإنتقام و التشفي التي لا تعرف السدود و لا الحدود أو الموانع، و مناقشة أهل الأفكار المتحجرة هي واحدة من المستحيلات في عالم الفكر و السياسة وهو عالم واسع و مرن يتسع للعديد من الرؤى و التوجهات المتعارضة، و كنت قبل أيام قد ناقشت في مقال سابق مسألة ما أشيع عن ترشيح رئيس الحكومة العراقية السيد نوري المالكي لنيل جائزة نوبل للسلام لجهوده في تهدئة الأوضاع المتوترة في العراق؟ و بينت في ذلك المقال من أن هذه الدعوة غريبة لكون المهمة في العراق لم تنجز بعد فما زالت الدماء العبيطة تملأ شوارع العراق و ما زالت مخاطر الحرب الطائفية قائمة في ظل عدم الحسم مع الجماعات و الميليشيات الطائفية المختلفة شيعية كانت أم سنية، و مع تدهور الحالة المعيشية للمواطن العراقي و إزدهار سوق القطط السمان الطفيلية الطائفية من أهل الأحزاب الحاكمة و المتحكمة و مع جبال و أطنان الفساد الهائل و ملفاته الرهيبة بروائحها الزكية التي ( تعطر ) كل جوانب العملية السياسية المعوقة في العراق، و أردفت أن إثارة المطالبة بالترشيح لتلك الجائزة هي عملية ترف سياسي بل بطر سياسي أكثر من كونها مسألة واقعية و تنسجم مع ظروف العراق، ولكنني مع ذلك لم أفاجأ بالردود المتشنجة التي وصلتني سواءا بشكل مباشر أو غير مباشر!!

وهي ردود تراوحت كالعادة العراقية و الدائمة بين الإتهام بالطائفية و بالعداوة الشخصية و الفكرية للسيد المالكي و لحزبه ( الدعوة )، و بين شجب موقفي و كلامي الذي يتعدى على مكانة ( رمز العراق الجديد ) كما يقولون؟ في محاولة بائسة لخلق دكتاتوريات بديلة للديكتاتورية الصدامية المنهارة!!، و لكن أغرب إدعاء لتأييد نيل المالكي لجائزة نوبل التي تقرر في النهاية في ( أوسلو ) و ليس في مكان آخر هو ذلك القائل بأن توقيع المالكي على قرار إعدام صدام حسين قبل عامين هو أمر يستحق أن ينال بعده تلك الجائزة الدولية العريقة؟ وهذا لعمري واحد من أغرب و أعجب التبريرات بل أكثرها سذاجة في عالم السياسة و بحرها الهائج، فعمليات الإعدام ينظر لها في الغرب بإشمئزاز و رفض تام بل يعتبرونها عملية وحشية تستحق الإدانة و ليس التكريم مهما كان الجاني قد إرتكب من الجرائم و النرويج بالذات يشعر ساستها حتى اليوم بالأسف لحالة الإعدام الوحيدة التي أصدرتها محاكمهم و طبقوها بحق رئيس الحكومة النرويجية المتعاون مع الإحتلال النازي ( 1940 / 1945 ) فيسكونت كويسلنغ!! و هم يعلمون إن تنفيذ ذلك الحكم كان بناءا على الخضوع لمتطلبات دولية و تلبية لمشاعر ما بعد الحرب العالمية الثانية و إستجابة لدور اللوبي اليهودي القوي و الفاعل !، كما أن عملية إعدام صدام حسين بحد ذاتها إستهجنتها الطبقة السياسية النرويجية و أعتبرتها حالة إنتقام أكثر من كونها عملية قضائية بحتة؟ و لكي أكون أكثر دقة و شفافية فحتى عملية الإعدام تلك قد فشلت حكومة السيد المالكي في تخريجها إعلاميا بشكل ناجح و مقنع!! بل أن ضررها أكثر من نفعها بسبب ما تسرب للعالم من صور اللحظات الأخيرة لعملية الإعدام و التي جرت بشكل إرتجالي مع ما رافق ذلك من ترهل فظيع في تصريحات المسؤولين العراقيين الذين كانت بعض تصريحاتهم متناقضة و غير دقيقة!!

كما هو حال ما قاله مستشار الأمن الوطني العراقي الرفيق موفق الربيعي بقولته أن صدام حسين كان في حالة خوف كما كان يرتجف من مواجهة الموت!!!! بينما أظهرت الصور التلفزيونية غير ذلك تماما، و هي صور إستفاد منها صدام ذاته في لحظاته الأخيرة و ما زالت ذكرياتها تثير ردود أفعال متباينة بمثل ما ذكرته صحيفة الصانداي تايمز مؤخرا من أن جثة صدام كانت قد تعرضت للطعن بالسكاكين بعد الإعدام كجزء من عملية الإنتقام العراقي التاريخية، فرئيس الوزراء العراقي السابق نوري السعيد مثلا لا يوجد قبر له رغم أنه من مؤسسي الكيان العراقي الحديث!، بل أن أشلائه قد تناثرت في شوارع بغداد ووصل بعضا منها للقاهرة!!، أما عبد الكريم قاسم فكان مصير جثته الحشو في كيس إستقر في قاع نهر ديالى!!، أما الرئيس عبد السلام عارف فقد ( طار لحم لينزل فحم )!! حسب الأهزوجة الشعبية التي إنتشرت بعد مصرعه في حادث غامض لطائرته المروحية شمال البصرة في ربيع 1966!!، أما الرئيس عبد الرحمن عارف فمات ودفن في عمان أما الرئيس أحمد حسن البكر فلا أخبار إعلامية حول قبره سوى كونه مات مسموما بيد رفاقه عام 1982، كما أن عملية إعدام صدام شكلت فشلا إعلاميا و سياسيا ذريعا للحكومة العراقية و التوقيع على قرار الإعدام الذي أصدرته المحكمة الخاصة ليس بطولة أو عمل متميز يلفت الإنتباه و يدعو لجنة جائزة نوبل لإعتباره عملا فذا من أجل السلام!! بل العكس هو الصحيح تماما، و لوكان أي شخص آخر في محل المالكي كرئيس للوزراء فإنه لن يتردد في التوقيع و المصادقة على قرار الإعدام و لكن لربما كانت عملية الإعدام ستجري بطريقة إحترافية أكثر من ( الهرجلة ) التي جرت و أساءت كثيرا لسمعة العراق في المحافل الدولية!!

و إذا كانت الصراحة هي معيارنا في تقويم الأمور فإن عملية التخلص من نظام صدام برمته و إعتقاله و تقديمه للمحاكمة ثم تقديم رأسه لزمرة التنفيذ العراقية كانت عملا أمريكيا محضا و خالصا لا فضل فيه لأي فئة عراقية لدرجة أن الحكومة العراقية الحالية عاجزة عن تنفيذ بقية الأحكام بحق بقية المدانين و في طليعتهم علي كيمياوي الذين يرفض الأمريكان تسليم ملفاتهم للحكومة العراقية!! إذن القضية برمتها بعيدة كل البعد عن سلطة المالكي المشغول هذه الأيام بتثبيت مواقعه القيادية من خلال التحالفات الجديدة و الصراعات المستجدة مع الجبهة الكردستانية ومع معارضيه في التيارات الشيعية ذاتها وقضية الترشيح لجائزة نوبل ما هي في النهاية إلا بالون إعلامي وهروب للأمام من مستحقات ملفات عراقية صعبة و يائسة!!، لذلك لا فائدة البتة من تجريد الأقلام و محاولة خلق صنمية قيادية جديدة في ظل وضع عراقي هش و حالة توتر فظيعة تجعل صورة المستقبل غير مطمئنة في ظل التبدل في المعادلات الدولية و الذي سيترك آثاره بكل تأكيد على الصورة العراقية المشوشة أصلا... جائزة نوبل لن تكون بلسما للجراح العراقية أبدا.. بل هي نكتة ثقيلة في زمن الموت العراقي الشامل!

داود البصري