المعارضة أولاً، هي في صلب أي نظام منه وإليه وهي بمثابة قرون استشعاره وعينيه. والمفهوم الشائع والسلبي عن المعارضة هو نتاج الموروث الاستبدادي في المنطقة الذي ربطها تاريخياً، بالكفر والزندقة والإلحاد، والخروج عن الطاعة ومفارقة الجماعة، التي لا تعترف بأي نوع من الرأي الآخر، والفعل المعارض باعتباره خروجاً منكراً على ولي الأمر، وما أدراكم ما ولي الأمر. والمعارضة من ضرورات أي نظام يريد البقاء، ولكن أين هي هذه المعارضة المثالية والنزيهة المترفعة عن المكاسب وحسابات الربح السياسية الرخيصة والارتباطات الخارجية، في واقعنا اليوم؟

الإصلاح والتغيير هو مطلب شعبي سوري، ويخرج في أحايين كثيرة من قنوات رسمية، ويلامس هموم ومشاعر طبقات واسعة وعريضة من السوريين، ويمثل سبباّ لديمومة لدى أي نظام يريد البقاء، وليس اختراعاً وهبة من هذا أو ذاك. المراوحة في المكان، وعدم التجديد، والتحجر، والتشبث الدوغمائي بالأفكار هو المقدمات الأولية للتكلس والفناء والزوال. والإصلاح والتغيير هو في نفس الوقت، من أهم العناوين واليافطات، التي ترفعها المعارضة السورية، وهذا من حقها، وتعتبره من المطالب الأولى في عملها وquot;نضالهاquot;. وفي الحقيقة هناك خطأ شكلي وتنظيمي عند تناول المعارضة السورية باعتبارها كلاً وكتلة سياسية واحدة ومتجانسة، إذ لا يمكن النظر إليها إلا من زاوية كونها معارضات تتعارض هي الأخرى فيما بينها وتتصارع وتتهاتر وتتناطح وتتناحر. وما من فعل ونشاط لهذه المعارضة إلا وتعقبه حركات معارضة، ليس من النظام وتوابعه، كلا وحاشا، بل من المعارضة ومعارضيها بالذات. وكلنا يذكر ويعلم كيف انتهت جبهة الخلاص الوطني إلى سلسلة من الاعتذارات والانسحابات والمشاحنات والاتهامات المتبادلة فيما بينها وتشخصنت بشخص السيد خدام. ناهيك عن تشرذم الأحزاب المعارضة الرئيسية الأخرى كجماعة الإخوان المسلمين، التي انبثقت عنها حركة سورية للعدالة والبناء والتنمية، إن لم تخني الذاكرة وعلى ما أعتقد، والتي سرعان ما انشطرت هي الأخرى إلى quot;حريكاتquot; أقل صغراً وشأنا، وفصلت quot;زعماءهاquot; وقادتها السابقين، ورفعت في وجوههم المصاحف والسيوف والرماح. ولن نتحدث هنا عن الأحزاب الشيوعية المتناسلة التي لم يعد بالإمكان البتة، إحصاؤها، أو تتبع انشقاقاتها، وحفظ أسمائها الجديدة والقديمة وأسماء رفاقها وأمنائها العامين، وبلاشفتها الثوريين، وماركسييها اللينينيين وبروليتارييها الغاضبين. وثالثة الأثافي، وأم العجائب، والطامة الكبرى نتلمسها في الأحزاب القوموية ذات التوجه العروبي والناصري التي انشطرت، وبدون أية مبالغة، إلى عشرات الأحزاب، لا يتجاوز عدد أعضائها، عدد أصابع اليد الواحدة أحياناً. هذه الأحزاب مفتونة باسم عبد الناصر إلى حد الوله، وتعيش على إرثه السلطوي الذي أجد صعوبة بالغة في تحديده وإيجاد أية إنجازات ملموسة له. وتحاول أن تعيد أمجاد quot;الزعيم الخالدquot;، الذي يقف وراء معظم هذا البؤس والاستبداد الشرق أوسطي المقيم، ويمثل مرحلة صعود واستشراء العسكريتاريا بشكلها الفج القبيح خير تمثيل، واستباحة خصوصيات وحريات الناس. وأخيراً فالمآل الكارثي المحزن الذي آل إليه إعلان دمشق، ما هو إلا حلقة في هذه السلسلة الطويلة من الانهيارات والتداعيات، والتي يبدو أنها لن تنتهي، ولن ترسو على بر.

هذا من جهة ومن جهة أخرى، أصبحت هذه المعارضة تضم فيمن تضم، لمامات إيديولوجية متنافرة ومتشتتة ومهزومة تاريخياً، ومافيات النهب والفساد ذات الشهرة العالمية والتي مصت دماء الشعب السوري، وعصبويات وسقط متاع وشتات وشراذم من المهربين والتجار والسماسرة والتائهين إيديولوجيا، والفارين من الخدمة العسكرية، والملاحقين قانونياً بتهم شتى، كالقتل والسطو وسرقة المال العام، والنصب والاحتيال، وسفاح المحارم للبعض والعياذ بالله، ولن نذكر أسماء، ووقائع، تتوفر لدينا لكي لا تتشخصن القضية وتبدو كيدية. والأحلى والأجمل من كل هذا هو طبقة quot;العرضحالجيةquot; الصاعدة حديثاً، أي كتاب العرائض ( المسماة مقالات وتعج بالسباب وبالأخطاء الإملائية والنحوية الفاضحة بكل ما في الكلمة من معنى ولا يقع فيها تلاميذ الصف الأول الابتدائي في سورية والتي يدعو هؤلاء لإصلاح التعليم فيها مثلاً)، وصعاليك الإنترنت ومواخير أوروبا، ولكل حساباته ومنطلقاته وأحلامه التي لا يجمع بينها أي جامع ما. وحين يدعو أي فصيل منهم لما يسمى بـquot; مؤتمراتquot; المعارضة السورية في الخارج ترى الخليط العجيب والهباب وتوجس كل فريق من الآخر، والأحابيل التي تدار في الخفاء للتأمر، والنميمة على هذا الفريق، أو الوشاية ضد هذا الشخص للإيقاع به، أو المساعي المحمومة وراء الكواليس لطمس، أواستبعاد ذاك. كما أن هناك محاولات حثيثة للاستئثار بالمعارضة السورية وسعي كل جهة لكي تنسبها لنفسها واحتكارها وتسجيلها كوكالة حصرية باسمها. وتراجعت بل كادت تختفي كل تلك الأصوات الشريفة، والشخصيات المرموقة، والأسماء المحترمة، وسط هذا الركام العجيب واللامتجانس من العصبويات والحزبويات والأفراد التي تفتقر لأدوات وآليات الممارسة الديمقراطية التي تدعو إليها. فكيف يستقيم أن يصبح quot;فاقد الشيء هو عاطيهquot;، لمجرد أن يدغدغ العواطف ويلعب على مفردات الفساد والاستبداد والتجاوزات وغلاء الأسعار مثلاً؟ هل تكفي هذه البهلوانيات الشكلية والفروسيات اللفظية للنهوض والقيام بعملية ديمقراطية كوصفة سحرية وحبة أسبرين يتناولها المرء فيتعافى فوراً من الصداع لعلاج أورام تاريخية في جسد هذه الأوطان المنهكة منذ الأزل؟

إن دعوات المعارضة لإصلاح النظام، وهي في هذا الوضع والحال والإشكاليات العدة التي تكتنفها، تبدو بعيدة المنال، وهي من قبيل الأطروحات الطوباوية التي لا تنسجم وواقع الحال، وينطبق عليها المثل الشائع quot;يداوي الناس وهو عليلquot;. وعلى المعارضة السورية، وتوخياً للمصداقية والانطلاقات الصحيحة، الشروع أولاً في إصلاح ذاتها، والتخلص من عللها، وآفاتها وأمراضها المستعصية العضال، قبل أن تتبنى، وتدعو لإصلاح أي شيء آخر، وبما فيه، النظام.

نضال نعيسة