إعتادت كردستان على الأخبار التي تكاد أن تكون يومية حول إنتحار نسوة يائسات بحرق النفس. ورغم عدم وجود أحصاءات دقيقة عن نسب جرائم العنف الأسري بسبب القيود الناجمة عن فرض السلطة الأبوية،وبحكم العادات والتقاليد الإجتماعية الموروثة والمتخلفة المفروضة على المجتمع الكردستاني،إلا أن الإنتحار وخصوصا بين النساء يشكل العلامة الأبرز والأكثر وضوحا لمستوى العنف الممارس ضد المرأة ومصادرة حقوقها الإنسانية..


ولم أستغرب عندما قرأت خبرا عن حرق فتاة في ريعان الشباب لنفسها بسبب منع والدها من إقتنائها لخط هاتف محمول. ولكن الألم أحرق قلبي وأنا أجد أبا يدفع بإبنته الى الإنتحار بسبب هذا الطلب، فلا أدري كيف طاوع قلب ذلك الأب أن يقتل إبنته لهذا السبب التافه؟!. وهناك مئات الشواهد والقصص الأخرى التي نسمعها بشكل يومي عن إقدام بعض النسوة على الإنتحار تخلصا من ظلم الأب أو تعنيف الأخ أو إستهتار الزوج بمشاعر زوجته.


كدنا أن نعتاد على سماع هذه الأخبار المؤلمة والتي ترجع بالأساس الى سطوة التقاليد الإجتماعية والقبلية البالية التي ما زالت تسيطر على المجتمع الكردستاني.
ورغم عدم إمكانية مواجهة هذه الجرائم التي يتحمل مسؤوليتها المجتمع بسبب القوانين المتخلفة، ولكننا لاحظنا في الفترة الأخيرة بروز ظاهرة أشد إيلاما من ذلك.. وهي لجوء بعض الأشخاص الى الإنتحار بسبب الفقر أو الجوع..

فقد توالت في الأيام الأخيرة قصص وأخبار عن إقدام بعض الأشخاص على الإنتحار يأسا من الحياة وفقر الحال، بينهم أحد أفراد البيشمركة الذي أقدم على الإنتحار بعد أن عجز عن دفع إيجار البيت كما روى البعض ممن كانوا على إحاطة بالحادث الذي هز المجتمع الأربيللي ( نسبة الى مدينة أربيل) العاصمة الإقليمية لكردستان.


وتزامنت مع هذه الحالات عودة جرائم السرقة الى كردستان في مقدمتها سرقة السيارات والبيوت، وهي جرائم آخذة بالتزايد جراء الأزمات المعيشية التي يعاني منها الكثيرون في إقليم كردستان هذه الأيام.
فقد سمعت من الكثير من الأشخاص أن حكومة الإقليم لم تدفع رواتب أفراد البيشمركة منذ أكثر من ثلاثة أشهر. ولا أدري أسباب عدم دفع رواتب هؤلاء،وما إذا كان سبب ذلك يعود الى الخلاف الدائر بين حكومة الإقليم ووزارة الدفاع العراقية حول تخصيص ميزانية خارجة عن حصة الإقليم لهذه الشريحة، أم أن هناك سببا آخر لا أعرفه ولم تعلنه الحكومة الإقليمية؟.


كما لا أدري لماذا يجب أن يتحمل هؤلاء البيشمركة عبء هذا الخلاف المالي مع بغداد من مصدرهم الوحيد للمعيشة، وهم في الغالب الأعم لا يعرفون مهنا أخرى، أو لا يسمح لهم بمزاولة مهنة أخرى للتكسب، فما ذنبهم إذن في الخلاف الدائر بين الحكومتين العراقية والإقليمية حول ميزانية قوات البيشمركة؟. يجب أن لا ننسى أنه في المحصلة هم أصحاب عوائل تنتظر حلول رأس الشهر لقبض بضعة دنانير لتدبير معيشة أطفالهم. ولمن لا يعرف الوضع هنا، فإن ميزانية إقليم كردستان تبلغ ما يفوق 6 مليارات دولار سنويا وهي تشكل نسبة 17% من موازنة الدولة العراقية،وهذه ميزانة تعادل ميزانيات بعض دول العالم تقبضها حكومة الإقليم لإدارة شؤون ثلاث محافظات عراقية؟؟!!!..
ولا أدري أيضا كيف يمكن لدولة أن تجوع جيشها وهو درع الوطن أو السياج الحامي كما يحلو للبعض أن يصفه..

عندما سئل السيد مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان في مؤتمر صحفي معروض على شاشات العالم أثناء إشتداد الأزمة بين تركيا وإقليم كردستان على خلفية مشكلة تواجد حزب العمال الكردستاني داخل أراضي الإقليم، عن كيفية مواجهة البيشمركة لغزو تركي محتمل وهم لم يستلموا رواتبهم منذ أكثر من ثلاثة أشهر؟. أجاب سيادته quot; بأن البيشمركة لا يقاتل من أجل المالquot;.
وكان جزءا من كلامه صحيحا، لأنني خدمت أكثر من عشرين عاما في صفوف البيشمركة في الثورتين الكرديتين المتتاليتين منذ عام 1970، وتحملت الى جانب رفاقي الآخرين من البيشمركة مصاعب الحياة وشظف العيش وقساوتها في جبال كردستان، ولم تكن إمكانيات الثورة في تلك الفترة تكفي لشراء زوج من الأحذية المطاطية للبيشمركة إلا في ستة أشهر مرة واحدة، وبالكاد كنا نجد ما نقتات به في أيامنا القاسية في تلك الفترة، وكان معظم عوائل البيشمركة التي تركوها في المدن لينضموا الى صفوف الثورة، تعيش على صدقات الخيرين من الأقرباء والأصدقاء، ومع كل تلك الظروف القاسية التي عشناها بكل مآسيها وعذاباتها من أجل قضيتنا العادلة تحملنا تلك المصاعب، ولكن كيف يمكن اليوم أن يعيش البيشمركة في ظروف مماثلة وكل ما حولنا أصبح بالفلوس؟؟!.
حتى الكهرباء لم تعد الحكومة توفره لنا فنضطر راغمين الى دفع مبالغ كبيرة من أجل إنارة غرفة من غرفنا في البيت، وهناك مئات الألوف ممن يشحذون إيجار البيت في ظل الغلاء الفاحش الذي يضرب كردستان والتي تصور في وسائل الإعلام المحلية زورا وبهتانا كأنها السويد أو سويسرا أو إمارة دبي؟!.

لقد قتلت السلطة في كردستان كل قيم الجمال لدى الإنسان الكردي. فلم يعد المواطن الكردي يهمه إن غزا بلاده جيش فارسي أو طوراني! فلم تعد لديه أي قضية مقدسة يناضل أو يسترخص الدماء من أجلها، بإستثناء قضية تدبير معاش أطفاله وهي قضية تؤرق مضاجعه في كل لحظة في ظل الأزمات الخانقة التي يعاني منها، على رغم إنهمار جزء من ثروة العراق على إقليمه.
نعم.. قتلت السلطة الحاكمة الإنسان الكردي في داخله،لهذا ترى الكثيرين منهم يستهينون بحياتهم من بعد يأس وعجز عن تحقيق حياة أفضل لأطفالهم أو تأمين مستقبل مشرق لهم.
فما معنى أن يستأجر مسؤول كردي أربع راقصات من الملاهي لإحياء حفلة عيد ميلاد أحد أصدقائه ويصرف 75 ألف دولار على تلك الحفلة،وهناك أكثر من 750 ألفا من المواطنين يتضورون جوعا؟؟؟!!!!.
أعتقد أن هذا المبلغ كان يكفي لدفع رواتب لوائين كاملين من ألوية البيشمركة الذين ما زالوا لم يستلموا رواتبهم منذ ثلاثة أشهر.
لقد سئل الكاتب العبقري برناردشو ذات مرة عن رأيه بالعالم.. وكان شو معروفا بصلعة رأسه ولحيته الطويلة الكثة. فأجاب السائل بعبقريته الفذة
quot; العالم كصلعتي ولحيتي، غزارة في الإنتاج وسوء في التوزيع quot;؟؟!!!.

شيرزاد شيخاني

[email protected]