قبل أيام كشف السيد جلال طالباني، رئيس جمهورية العراق، عن بعض الأسرار التي ينوي نشرها في مذكراته المرجوة. هذا البعض كان مقتضباً، وإشارة سريعة إلى حقبة خلت، كان زمام الأمور فيها بيد الرئيس الراحل صدام حسين كلاعب أقوى في الساحة.
في لقاء صحافي خاطف يقول طالباني أن صداماً عرض على الجبهة الكُردستانية تقسيم كركوك مناصفة بين الحكومة والأكراد عند نقطة نهر الخاصة على أن يكون الجانب الغربي منها للحكومة، ويظفر الأكراد بالجهة الشرقية لأنفسهم.
الجبهة الكُردستانية رفضت ذلك، إعتصاماً بموروث عَقَدي أن كركوك بقضه وقضيضه ملك الأكراد تأريخاً وجغرافية.
وطالباني الذي قدّم خيرة شباب الأكراد نحو المذبحة، من أجل ما وصفه بقدس كُردستان، وتقدّم حراس الثورة الإيرانيين عام 1986 وقصفوا نفط كركوك، يرضى اليوم بـ 32% حصة الأكراد في المدينة حكماً ورزقا!
لكن كما معلوم لدى العامة، أن حصص النفط عائدة إلى جيوب قوى خارجية، وحصة أخرى (وهي كبيرة على أية حال) تُقسّم بين الميليشيات العراقية، ومن بينها ميليشيات الأكراد، فيما الشعب الكُردي محروم حتى من حق التدفئة بالنفط الأبيض في بلادهم، وهو مادة ضمن أكثر من خمسة عشر مادة تُشتق من النفط الخام، ولا يساوي قيراطاً في السوق العالمية. والأنكى أن حصة الأكراد أثقل. فميليشيات الحزبين الكُرديين بقيادة مسؤوليها، وجدت في كركوك متجرا لمغانم للمسؤولين، لإشباع الرغبة الجامحة الطافحة.
وأصبحت الحال على نحو أشد ثقلاً، أن من يستنكر ويشكو يُذبح، كما أغتيل صحافي كُردي (سوران مامه حه مه) قبل أيام لأنه كتب مقالات كشف فيها النقاب عن إهمال المسؤولين للقضية القومية، وإنشغالهم بتحويل بنات كركوك الكُرديات وغيرهن إلى عاهرات، لا تردن يد لامس، بعد رفع حصانة العرض عنهن من قبل المسؤولين الأمناء!
والحال فإن كركوك وهي المدينة التي يتنازع عليها كثيرون، هي الأكثر بؤساً من باقي المدن وتخبئ للجميع في عينيها يوماً ثقيلا.
الحزبان الكرديّان، ما كانا قط صادقين، في إدعاء نسبة المدينة إلى مناطق كُردستان. ففرصة استرجاع كركوك كمدينة كُردية كما في أدبياتهما المتكررة يومياً، سنحت أكثر من مرّة لكن الإنكفاء نحو خيمة الحزب والقائد الذي ينظر بناظور مصالحه الضيقة، فوتت تباعاً تلك الفرص، ناهيك عن المعاملة السيئة للتركمان والعرب، دعك عن الشعب الكُردي أساساً الذي نال الويل من الحزبين (الكُرديين)!
فالحزب الديموقراطي الكُردستاني بزعامة السيد مسعود بارزاني، لم يكن يوماً صادقاً في العمل من أجل إعادة الهوية الكُردية للمدينة وتقديم الخدمة لأهاليها، والعمل من أجلهم.
في جلسات حزبية خاصة، صرح مسؤولون معينون لكوادر الحزب، أن إعادة كركوك إلى جغرافية كُردستان ليست من مصلحة الحزب، نظراً لأن الأكراد الموجودين فيها تابعون للإتحاد الوطني الكُردستاني، مما يعني تقوية الخصم وتوسيع نفوذه وهيمنته. هذا هو المحتوى الذي يتفق عليه قومييو الأكراد ومعتدليهم وسياسييهم من شتى الأصناف.
فمحمود عثمان الموصوف بالسياسي الكُردي المستقل والمعتدل، ما برح يرسل الإشارات والتوضيحات الكثيرة إلى جوهر المسألة الغائبة في إعلام الحزبين، أن الصراع بينهما أدى إلى خنق كركوك، وإعدام كُرديتها بمصابها الجلل منذ أمد بعيد من الزمان.
أما الإتحاد الوطني الكُردستاني الذي تأسس بفكر قومي/ ماركسي في عام 1975، كان وإلى اليوم يفكر بعقلية السيطرة والهيمنة بفوهة البنادق والجريمة المنظمة.
وفي هكذا سبيل ظلت القومية وسياساتها، والسياسة بشكل عام، قرابين للمصالح الآنية لمقتضيات الحزب/ المنظمة.
إن الحديث عن كركوك ذو أبعاد متداخلة، ويتطلب جهداً عقلياً طاهراً، لاستيعاب المعادلات المتعلقة بهذا الموضوع.
هناك بالطبع كما هو معلوم، صراع شديد بين جهات مختلفة على هوية المدينة. الأحزاب الكُردية تريد لها ان تكون كُردية. التركمان يطالبون بها كتسجيل قومي على بقعة جغرافية غنية. والعرب يريدونها عراقية بمفهوم عروبي أكثري مهيمن في إطار الدولة لعراقية. وقل عن السنة والشيعة وتجاذباتهما غير المنفصلة عن وقائع الصراع على كركوك على نفس المنوال.
وفي الأثناء فإن الإنسان/المواطن بغض النظر عن جنسيته وإنتمائه قد تحول إلى كومبارس في الفيلم العراقي، لا شأن له، بينما يؤدي دور البطل/ الأبطال عدة اشخاص وجهات بمونتاج عالمي، بإدارة الشركات والقوى الكبرى العالمية.
نعم الإنسان لا شأن له هناك ويساق إلى المظاهرات وإلى الحرب وإلى القصعة كالأنعام.
منذ سنين والأكراد يجرون خلفهم الموت والعذاب كأكياس النفايات، كفضلات مرمية لهم من قبل زعمائهم ومسئوليهم، دون أن يخرجوا عليهم في مظاهرة أو ما إلى ذلك شجبا وإستنكاراً، على ما آلت إليه إنسانيتهم من مسخ وسحق.
لكنهم يُجرون إلى مسيرة جماعية لتثبيت هوية مدينة لن تعود خيراتها عليهم، إنما تذهب بعيداً لتوفر الدفئ والرفاه لجميلات الغرب (وما زاد للعاملين عليها لصالح قوى خارجية)، والذين يتصدون لهم هم التركمان. إذن القضية على هذا النحو مدبرة ولننظر في ذلك!
القوميتان الرئيستان في كركوك هما الأكراد والتركمان. هذان التكوينان يرثان من أسلافهم أحقاداً تأريخية من الأفضل الإشارة إليها دون لف أو دوران.
التركمان في هذه المناطق الواقعة بين آذربيجان وإيران والعراق، كانوا في معظمهم من الشيعة الموالين للصفويين.
أما الأكراد ومعظمهم من السنة الشافعيين كانوا عثمانيين وقادوا حملات التصدي للصفويين، المدعومة من قبل قوى غربية، في مواقع كثيرة أشهرها في التأريخ معركة جالديران. ولولا الأكراد لكانت الصفوية فتكت بديار السلطة العثمانية فتك الموت بالقلب النابض.
يقول المؤرخ التركي اورخان محمد علي، من أصل تركماني عراقي، في مقاله quot;الخلافة العثمانية والأندلسquot;: (أن الدولة الصفوية كانت تدرب الآلاف من شباب التركمان الشيعة وتبعثهم إلى الاناضول لنشر المذهب الشيعي، وكانت نتيجة هذه الجهود حدوث حركات عصيان مسلحة قادها الشيخ جنيد ومن ثم إبنه حيدر حتى قضى عليها السلطان سليم إبن السلطان بايزيد الذي استنجد به مسلموا أندلس وهم في أخطر ظرف أودى بهم لاحقاً).
هذه البدايات وقبلها أحداث متداخلة، خلقت حساسيات بالغة بين الأكراد والتركمان على أساس مذهبي لم تظل حتى تحولت إلى حساسيات قومية، إنعكست حتى على التركمان السنة بفعل العوامل السياسية والإجتماعية المساعدة.
في شمال العراق، التركمان السنة ينقسمون إلى قسمين:
الأول تكوين ثقافي قومي مسالم اعتكف إلى إستقرار إجتماعي متفرغ لشؤون الحياة، وهو القسم الأصغر.
الثاني هو حركة الإنقلاب الإجتماعي، التي نمت داخل أحشاء المجتمع الإقطاعي الكُردي، وأدت إلى تمرد الفقراء والمعدومين على الإقطاع بالهجرة نحو المدينة والبحث عن حياة أرقى وأجل شأناً.
التكوين التركماني الأصيل، والممزوج بعناصر كُردية كثيرة تتركت بفعل الزواج والوظيفة منذ العهد العثماني بفضل الإمتيازات، كان قد أوجد لنفسه نمطاً مدينياً جذاباً لأولئك الأكراد المتمردين على إقطاع القرى.
الغضب والإنتقام والحقد لهؤلاء المتمردين شملن كل شئ حتى الوجود التكويني لهم، في ظل عوامل أخرى قاسية لاحقاً، وهي التبعات التي خلفها تقسيم كُردستان بين أنظمة عاقبت الهوية الكُردية، وجعلت من الإحتفاظ بها من قبل الأكراد أمراً ثقيلا قريباً من المستحيل.
رويداً رويداً تحول هؤلاء إلى نمط إجتماعي/ ثقافي مغاير للنمط الكُردي في وقت كانت العصبية القومية الوليدة من العصبية المذهبية قد وطدت أركانها بين الفئتين منذ فترة طويلة.
ومن هنا بدأ التكوينان يتجهان نحو المزيد من التمايز العدائي بحدة، والإنكسار على تخوم متقابلة في الخصومة بأسناد كثيرة منها الواقع الإقليمي والأزمات الموروثة من الدولة الإقليمية/ القومية الناشئة بمرض ثقيل، من جراء إنهيار الخلافة العثمانية.
نحن تحدثنا بصورة واضحة في مقالين لنا نُشرا على quot;إيلافquot; بعنوان (أسرار الأحقاد في بلاد الأكراد، وفصل البيان في المستور من أحوال التركمان) في مسألة التركمان والكُرد.
اليوم وفي ظل عنصرية قومية سوداء، وعصبية طائفية عمياء، وفي ظل أحقاد موروثة من تأريخ صراعي بين مكونات هذه المنطقة، وفي واقع غاب فيه جوهر الإنسان بشكل شبه كامل، تندلع بانتظام شرارة الحرب وتطفو لجة الدماء في مدينة كركوك بين مجاميع بشرية هي أحوج، أكثر من أي شئ بعد تنفس هواء الحياة، إلى الوعي والعدل والأخلاق لتعيش بسلام، ولتأسيس حياة سعيدة وآمنة للأجيال.
إن الأحزاب الكُردية فاسدة لا تصلح لإدارة اي مجتمع بشري. ومثلها الجبهة التركمانية وسائر التكوينات السياسية العراقية الحالية. إنها مخلوقات ولدت في ظروف عصيبة ونكدة.
على البشر في العراق عموماً، والمثقفين والعقلاء خصوصاً، التبرؤ منها كلها، والتفرغ للحياة بمعناها السليم الراقي المبدع.
والحرب لا شك ستقوي رقاب الرويبضات من الأحزاب والقادة، وتذر الشعوب والمجتمعات حبوباً بين فكي رحاها. وعلى مفترق الطريق علينا الإختيار بين الحياة كاخوة في الإنسانية، أو النزول إلى الدرك الأسفل من العنصريات والعصبيات والإنتحار!
علي سيريني
التعليقات