أتخطى صرختي، راكضة أخرس سذاجة مذيع النشرة، لكنها تنهشني وتنهش الفضاء الصامت، للنحيب مغزى مختلف يعلن الدموع الساخنة وهي تحاول مسح عناوين الاخبار المكتوبة أو تكذيبها على الاقل (محمود درويش في ذمة الخلود).
لا.. بالتأكيد ثمة مسافة لتغيير معطيات الرقاد. أو هناك متسع لمحو النوم، هذه المرة.. انت تمزح معنا بوحشية يا درويش، لا نستحق منك تلك الاكذوبة النيسانية في آب الملعون بالشؤم.
الخبر كاذب لا محالة.
ربما تحاول اختبار العالم لمعرفة مداك يادرويش العظيم الأعظم.
تقول: (لولا حاجتي الى الشعر لما احتجت الى اي شيء آخر)
ربما اردت قلقنا و خوفنا لتكتب قصيدة، اكتب اذن، العالم ينصهر حزنا من مزاحك الوحشي، كذب ذلك وانهض لنا بجدارية آخرى نتسابق اليها بلهفة، قم و اترك الاسلاك الطبية واجهزة الاعاشة الكاذبة، روحك أجدر بكتابة الحياة لك يا درويش، لا يوجد ما هو أقوى من شعرك على مناهضة ملاك الموت، قل له بهمسك الساحر : (على هذه الارض، سيدة الأرض، ما يستحق الحياة).
تسجى بنبضك، تنفس برئاتنا، وانتفض، لملم منافيك و مغترباتك و اصنع منها بوصلة تدلك الينا.. ففي زكام القلب ربما تتوه المقاصد فلا تميز بين حيطان لحمك و لحمنا و بين ظلك المرهق وهو يجرك نحو أينه الغائب في حضرة السراب
تعال لنصلح شريانك بمسافات ننسجها من قصائدك و نفرشها بين أرضك الأم وسرير هدنتك الطويلة، نلم ما ترهل منه لكثرة ما قد تكدس فيه من وجع و اغتراب، و نرقيك، نعيد ما تهشم منه بأجزائك المغروسة فينا.
لا تخذلني بموتك يا درويش، مثلك أسأل:
- ما معنى كلمة لاجىء؟
سييقولون لك و لي : هو من اقتلع من أرض الوطن.
و ستسأل و أسأل وراءك :
- ما معنى كلمة وطن؟
و سيقولون لك : هو البيت و شجرة التوت و قن الدجاج و قفير النحل و رائحة الخبز و السماء الأولى
و سيضيفون لي : النخلة و المدرسة و دجلة و الفرات و قبر امك
و تسأل انت أيضا :
- هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات.. و تضيق بنا؟

تطاول يا درويش على رغبتك بالنوم و الحلم لكتابة قصيدة، آخرك الذي يعيش في الشعر مازال جائعا للتجلي و التجسد، يتململ تحت جلدك المطرز بالابر و هي تمدك بالدم و بمحاليل الحياة، دعه يا درويش ينتصر على هوائك الشاحب و رئتك المخدوعة بالاستلام للسكينة.. يحاول استفزازك بكلماتك :
اخرج معنا الى هذا الليل الخالي من الرحمة. ستعرف فيما بعد كيف تنضد الكواكب في خزانة الذاكرة، و كيف تعوض الخسارة بقوة العبارة و تنتصر. أما الان فلا تنظر الى النجمة لئلا تخطفك و تضيع، و تعلق بثوب امك.

اتبع يا درويش اوهامك و اوهامنا لئلا نضيع. تذكر مراسيم شعرك فينا و كيف و مع كل قصيدة تنمو بلاد، راوغهم و انهض الان لنا، انهض لأمسية في الجوار تقرأ لنا فيها ما رأيت في غيبوبتك القصيرة الاخيرة، واضحك علينا ان رأيتنا نبكي ونحمل شمعا يطفؤه هبوب متكرر يعدنا يقدومك، ستسمعنا نناديك بصوتك:
تذكرْ لتكبر، نفسك قبل الهباء
تذكرْ تذكرْ
أصابعك العشر وانس الحذاء
تذكرْ ملامح وجهك
و انس ضباب الشتاء
تذكرْ مع اسمك، أمك
و انس حروف الهجاء
تذكر بلادك و انس السماء
تذكرْ تذكرْ.

و أمك يا درويش تمسح عن وجهها رذاذ بكائنا. ترعبها الهواتف النقالة و هي ترن لاسقاط تهمة الموت عنك، تمسك شالها الابيض و تمده باتجاه فراشك البارد هناك، تسندك لتنهض فلا تخذلها، ربما هي الوحيدة التي تعرف كم كنت تعشق عمرك. اوجعتها ارتجافة خوفها الطاعن من عدم عودتك، ستصرخ أمك مثلي و مثلهم و تخرس الخبر. تذكرك طفلاً بيديه الصغيرتين يرسم وطنا ًبلون أبيض، تمسح عن جبينك ندباً امتدت لقلبك و تلملم من طفولتك حجارة ًً اعتنقتها كقرآن.. ستذكر الان وعدك و حنينك، تنتظرك أمك يا درويش كي تعود و ربما تجرجر نفسها على كرسيها المتحرك لترتيب مكتبك و اوراقك فلا تخذلها يا درويش لا تخذلها و تذكر وعدك :
أحن الى خبز أمي
و قهوة أمي
و لمسة أمي
و تكبر فيَّ الطفولة
يوما ً على صدر يوم
و أعشق عمري لأني إذا مت
أخجلُ من دمع أمي

لا تخذلنا يا درويش، لا تخذلني..
أشبهك، تخضبت بوجع، و يحاصرني كابوس الذبح. شراييني تتسع و تتسع ليمر فيها المهجرون و المنكوبون و قصيدتي شهادة طبيب شرعي بخراب البلاد
فانهض من مزاحك القاسي هذا و دربني على استيعاب الفجائع

لا تخذلني يا درويش..
الابواب موصدة جدا، أيضا لا سراب نستطيع التشبث فيه.
اترك (هناك) يا درويش فمازال (هنا) متسع من الاسئلة : ما الفرق بين ان تكون فلسطينيا ً أو عراقيا ً و بين أن تكون انسانا ً؟ و هل يحق لنا أن نحلم دون أن ننام؟ واذا نمنا و باغتتنا الكوابيس فأين ندفنها؟ ما المسافة الفاصلة بين الوجع و القلب؟ ما هو لون الوطن؟ ما طعم الهواء الأول؟ وكيف تحفظ الذاكرة جدران المنافي؟ وهل يختلف مناخ القصيدة بين التهجير والاستقرار؟ كيف تكون موسيقى النص المولود في دوي الرصاص والمدافع؟ متى يحق لنا أن نعود للحياة؟
وقد أكرر سؤالك أنت: هل الموتُ نوم طويل، أم أن النوم موت قصير؟

....... لم تجبني !!
لا.. لن أصدق أبدا ً.


تأخرت في نومك يا درويش... فانهض.. انهض أرجوك
اترك لهم ظلهم و ارجع
علمني كيف أرسم وطنا ً في الخيال وأتطهر من الدم.

رنا جعفر ياسين
*شاعرة و اعلامية عراقية مقيمة في القاهرة
[email protected]