تعتبر قضية غزة من القضايا المعاصرة التي أوصلت السيل مداه وأبلغت الأسئلة والحزن أقصاها، فقد فرقت الإخوان وفضحت الأنظمة الديكتارتورية العربية والديمقراطية الغربية على السواء، كما عرت قدرة الشعوب وكشفت لا جدوائية الضغط أو التغيير بالاحتجاج أو بالتظاهرات، إنها قضية بحق تستحق أن يتم التأريخ بها للتحولات الجديدة التي بدأت تظهر على السياسة الدولية وتناقضاتها التي تعيد صياغة المنطقة العربية...، كما أنها قضية وضعت الأخلاق والقيم الإنسانية والحقوقية العالمية في quot;مأزق تناقضيquot; بين ما تدعيه من قيم الحداثة والديمقراطية والحقوق وبين ما تقوم به من ممارسات شاذة وعدائية أو تساندها أو تصمت عمن يمارسها.


يتحدث الكثيرون اليوم عن ملاحم الصمود في غزة، وما أوقعته quot;المقاومة الباسلةquot; بالجيش الإسرائيلي، وما أبدعته في صدها لعدوانه رغم بساطة آلياتها وضعف إمكاناتها، ولكن لم ينظر أحد إلى ما خلفه العدوان على مدينة غزة؛ من خسائر بشرية وخاصة في صفوف الأطفال الأبرياء والنساء والعزل من المدنيين عموما، بل دافعت الأمة عن شجاعة المقاومة وزغردت النساء للمضحى بهم على جنبات الطرق وتحت أنقاض البيوت، ولم يتساءل سائل هل كانت المقاومة ستخسر في صفوفها أكثر من ألف مقاتل ويقع منها أزيد من ثلاثة آلاف جريح؛ لو أنها اختارت خيار المقاومة السلمية أو العصيان المدني أو الإنزال الجماهيري لشوارع غزة منذ أو طيلة أمد العدوان!! ورواد المقاومة يعلمون علم اليقين أنهم إذا اختاروا مبدأ الصد العسكري ومواجهة العدوان بالسلاح، فلن يتدخل أي أحد ليوقف العدوان أو على الأقل يمدهم بالسلاح والدعم اللوجستيكيhellip;، وهل كانت أشكال المدافعة المعقلنة والسلمية مطروحة مبدئيا مع غيرها من الخيارات؟ كخيار المفاوضات والسلاح، خيار ربما يستحق توظيفه على الأقل لكسب مزيد مما بقي من تعاطف المجتمع المدني الدولي، وربما بتوظيفه يقع العدو الإسرائيلي في مأزق فلا يضحي بكل أولئك الأبرياء، ولا يتخفى معتذرا عن عدوانه خلف صواريخ القسام كما يفعل الآن، وربما في حال ممارسة العصيان المدني بنفس طويل؛ قد لا يستمر العدوان لأكثر من تسعة عشر يوما؟ وأظن أن هذه المسألة لم تطرح بهذا الشكل والواقع خير شاهد، والكل متورط إلى الآن فيما يحدث.


إن الآلة الحربية الإسرائيلية قد تفوقت في التطهير العرقي وتبنت في عدوانها مقولة:quot;الفلسطيني الخيِّر هو المقتولquot;، لذلك فلم تفرق بين طفل رضيع أو طفل مراهق ولا بين النساء والشيوخ والرجال، فهو عدوان منسجم ومتماهي مع خيارات وأطروحة الصهيونية وسلوكاتها التطهيرية التي تشبه النازية البائدة، والمواطن العربي المسكين يتباكى على الأطفال والنساء صارخا ما ذنب هؤلاء الأبرياء؟ ولم يستوعب أبدا أنهم أكفاء في خطورتهم على الكيان الإسرائيلي بحسب المقولة السابقة.


ماذا كان حصاد المواقف العربية سواء المرتبطة بالأنظمة أو الشعوب؟! فإلى حد الساعة هي مواقف مضطربة غير معقولة وغير منسجمة ومتخاذلة، والظاهرة الاحتجاجية العربية تضخمت حتى باتت كل عاصمة تسارع لتسير في مسيرة مليونية تتوحد فيها الأصوات واللعنات فتسجل السبق ككل مرة في إبداع سباب الأنظمة والعدو، بل أضيف معطى جديد يتمثل في نزول القادة وبعض الزعماء مع المتظاهرين إلى الشوارع للاحتجاج معهم، وبعد انتهاء المسيرة أو الوقفة لم يجد المحتجون من يتسلم منهم توقيعاتهم أو احتجاجاتهم؛ لأن أصحاب القرار هم أيضا قد نزلوا إلى الشوارع للتظاهر ويستنكرون معهم ما يقع بدون أن يظهروا حراكا؟؟؟


إن الشعوب التي لم تستطع تغيير أوضاعها المعيشية اليومية ولا أن تدافع عن كرامتها في ظل القمع اليومي وانتهاكات أنظمتها لأبسط حقوقها لن تستطيع وقف العدوان على غزة ولا مدافعة انتهاكات الإسرائيليين أو غيرهم، مما يعني أن الظاهرة الاحتجاجية اللحظية الإسلامية إنما هي تنفيسية وحماسية تعبر عن تعاطف مع الضحايا وتستنكر بشاعة الجرائم المرتكبة، ومن يشاهد الثقة التي تتحرك به الآلة الدبلوماسية والحربية الإسرائيلية واستمرار العدوان طيلة هذه المدة يتأكد يوما بعد يوم أن الاسرائيليين قد عرفوا أن الأمة لا دور لها لكي تلعبه لدعم المقاومة أو في وقف النزيف اليومي الذي يرتكب، وأن الأنظمة العربية فاشلة في التعاطي مع القضية على كافة الأوجه القانونية والشعبية والاقتصادية والدبلوماسية بحكم أن أي بلد من البلدان العربية أو الإسلامية التي ربطت علاقات مع الكيان لم تغلق باب السفارة الإسرائيلية أو تمثيليتها الاقتصادية واكتفت فقط بالتنديد وبالشعارات الفارغة، فكيف يفترض أن يكون لها موقف ضاغط في محفل دولي أو تقنع غيرها من الحكومات الغربية بالتحرك لوقف العدوان المتوحش؟


إن الشعوب العربية إلى اليوم لم تستوعب الدرس التاريخي سواء الذي تكرر في العراق أو أفغانستان أو لبنان واليوم يحدث بغزة، فوعي هذه الشعوب وذاكرتها شقية لحد فصلهما بين الأحداث والوقائع التي تتكرر في جغرافيتها وتنسى في لحظة أنها أحداث مركبة لصورة أضخم مما قد لا يتخيله المواطن العادي؛ الذي يخرج في جولة منتشيا مع المتظاهرين المنددين، لأنه في الأخير، لو استطاع أن يعي تاريخه على الأقل الحديث لأمكنه ذلك من عدم السقوط في نفس الأخطاء القاتلة ولا وقع أي بلد عربي أو إسلامي تحت الاستعمار في قرن تحتفل فيه الإنسانية بالخروج من الاستعمار إلى الحرية والديمقراطية والرخاء الاقتصادي؟ قضية غزة يجب أن تفتح أبواب مراجعة للذات وتؤسس لوعي جمعي جديد يمنع النسيان ويحتفي بالذاكرة ويفكك الأحداث ومجرياتها ليعرف أبعاد التدخل الأجنبي في الجغرافية الإسلامية فيمنع بذلك أسباب العدوان وتكراره.


ماذا بعد الانتصار لصمود غزة؟ سؤال يحيرني كما قد يحير أي شخص يعي أنه يكرر الصراخ في تظاهرات شتى ومتكررة تهم قضايا الأمة الممتدة من المحيط إلى المحيط، صرخات تذهب أدراج الرياح بلا جدوائية، والإجابة عنه شيء صعب وفاصل، قد تكون من عواقب الإجابة؛ إما أن يستمر الواحد منا في دعم الظاهرة الاحتجاجية كرقم يصرخ منددا وبلا نتيجة، فيرمي بنفسه للغالبية بصفته رقما لتكمل المسيرة مليونيتها وينتشي الكل، أو ينسحب فيخرج عن النسق وديكتاتورية مساره اللذان يفرضان أخلاق الجماعة كقيمة ملزمة، فيستهتر -وهو واع- بكل قيمة تفرضها الجماعات ونسقها بل يجعل من سلوكه استهتارا مستفزا يختزن الكوميديا والسخرية في آن، تجاه كل موقف مبدئي يعترضه، أو ينزوي بشكل سلس إلى ظلمة الزوايا أو الخلايا النائمة والنشيطة، فهلا حدد كل واحد منا الدائرة التي يقف فيها يرحمكم الله!!


سؤال آخر يؤرق الخارج عن النسق وهو لما كل هذه الاحتفالية بالتضحية بروح الأبرياء وبقيم القتل والتدمير رغم أن الأمة لا تستطيع إلا الدعاء والاحتجاج ومشاهدة الدماء والأشلاء؟ هل لتكرار الصور والمشاهد الدموية في ذهنيتها تفسير في ترسيخ تلك القيم حتى أصبح الأكل والشرب معها يستساغ ومشاهدة القتلى والاستمتاع بفظاعة ما يجري أمسى ثقافة يومية يتعايش معها الأطفال والكبار؟. ولما تنتصر الأمة للصمود ولا تنتصر لأسباب النصر ولا تأخذ بمقوماته، ولم تنهض له على الرغم من أن رواد وأدعياء النهضة والتقدم من أمثال الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي حتى خير الدين التونسي والحجوي الثعالبي.. مر على رحيل بعضهم قرن ونيف؟ هل استحالت ثقافة الانتصار لقيم التقدم والنهضة والحداثة، التي هي أركان الشهود الحضاري والرقي العمراني، إلى قيمة للصمود وحده لأكثر من قرن! أم هو دليل من الأمة على تمسكها بأضعف الإيمان أم أنه يشكل في حد ذاته في وعيها انتصارا؟!! أسئلة كثيرة تتوالد وتكبر في واقع عربي وإسلامي مفجوع وعقيم لم يستطع أن يثورها ولا يدفع بها لتنتج معرفة تزحزح قاطرته نحو الأمام لأنه فقد القدرة على التساؤل بله البحث عن إجابات.


كشفت غزة اليوم أنها كانت رائدة الصمود كما بصمت باكية على صورة التخاذل الإنساني، غزة فتحت النار على أغلب الفقهاء ودورهم المختل في قيادة الأمة، وكشفت سذاجة أحاديثهم عن التجديد والتفقه والفتوى والجهاد، كما فتحت النار على أفواه الشعوب العربية التي امتهنت الاحتجاج ووضعت الديمقراطية الغربية في كف مع الديكتاتورية العربية، نعم غزة الأبية ودماء الضحايا تسأل اليوم عن جدوائية الوعظ والخطابة كما تنظر بأسف إلى أسلحة الجيوش العربية، غزة دخلت التاريخ لأنها ستصرخ مداه بأي ذنب دمرت وخربت وقتل سكانها تحت توثيق الميديا وأعين المجتمع العربي والإسلامي والدولي، وإن كان أحد سيتحدث من اليوم وحتى في المستقبل البعيد عن النصرة وقيم البطولة وملامح الصمود دون أن يتذكر غزة فالصمت أحسن له، ومن كان سيفتي في العبادات والأخلاق والفضيلة أو يحاضر في روح الحداثة وقيم الديمقراطية فيجب أن يخجل من مقولاته عندما تذكر غزة في مجلسه.


نعم لقد وضعت مدينة غزة الكل في المحك وأعادت التشكيك في كل القيم، لذلك يجب أن تكون صرختها مدخلا لمراجعة أسلوب المقاومة وفاعليته وإمكانياته، ويراجع الحكام ضمائرهم وتعيد قيم الديمقراطية والحداثة والحرية وكل الشعارات أسئلتها لتنتقد نفسها وتشكك في غائيتها ومقدصيتها وجوهرها وماهيتها، وهي مناسبة للمتظاهرين ليأخذوا استراحة فارس لينظروا حولهم هل فعلا ساعدوا غزة وناصروها أم أنهم محاصرون بالوهم ودفئ الانتشاء بالصراخ والسير في مسار تفرضه روح الجماعة...، إنها لحظة حاسمة ومفصلية أمام أغلب الشعوب والأفراد والأنظمة، لحظة لا تتكرر كثيرا بهذه البشاعة وبهذه الكوميدية، قد يتمكن بعدها الجميع- إن استوعبت هذه اللحظة ووعيت بشكل موضوعي- من فعل الشيء الكثير في محطات قادمة أو على الأقل البدء في رسم مسار جديد، وأفضل من مسار الخذلان والتخلف والهزيمة، انطلاقة مبنية على أسس مثينة تحفظ قيمة وكرامة الإنسان والمواطن العربي، وتسعى للمعرفة وصناعة الانتصار والأخذ بأسبابه، وتحصد المجد والبقاء بحفظ ذاكرة الأمة والترقي بوعيها وفاعليتها بدل وأدها وتشويهها،-وهو الذي تمكنت الصهيونية المتوحشة من تحقيقه- وبدل الانتشاء بالأوهام وبزخرف الأشياء والأقوال.

يوسف محمد بناصر
باحث وكاتب
[email protected]