طالما فهِم الإنسان المسلم الدين والشريعة فهما راكدا غير متجدد، سيظل فهمه للحياة بتطوراتها وتجلياتها وإسهاماتها المادية والعلمية والاجتماعية وغيرها، فهما غير حديث، وسوف يمارس حياته اليومية مستندا إلى أسس ومفاهيم ماضوية تاريخية، اللهم إلا استخدامه وسائل الحداثة من أجل أن يقتات عليها ومن خلالها، ولا سبيل له غير ذلك، فيما أسس الحداثة والحياة الجديدة سوف تظل مرفوضة من قبله. فلا مصلحة لهذا الإنسان سوى استخدام وسائل النقل الحديثة، ووسائل العلاج الحديثة، ووسائل العمران الحديثة، لكن حينما تتحدث معه حول أسس ونظريات ومفاهيم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية والتكنولوجية وغيرها، سوف يرفض معظمها، لأنها تتصادم مع مفاهيمه القديمة، ومع أسسه الدينية التاريخية، وبالتالي تتعارض مع فهمه الديني للحياة انطلاقا من قاعدة quot;الإسلام دين ودنياquot;، رغم وجود قناعة منطلقة من أرضية صلبة تؤكد أن مفاهيم ونظريات الحياة الحديثة هي التي أنتجت وسائل الحياة الحديثة ولا فكاك بين الاثنين.


أقول هذا انطلاقا من قول البعض بأن الفهم الديني الراهن، الذي تتبناه المؤسسة الدينية الشيعية والسنية، فهم يستطيع أن يتعايش مع الحياة الحديثة. حيث يرى هؤلاء أن هذا الفهم بموازاة مناسباته الدينية، ومن ضمنها مناسبة عاشوراء، يتوافق مع المفاهيم الحديثة كالتسامح واحترام حقوق الإنسان.


هذا البعض المرتبط بالدين التاريخي الماضوي لا يستطيع أن يعي الدور المحوري للعلم الحديث والمفاهيم الحديثة في حياتنا الراهنة. فالفقه، على سبيل المثال، سوف يظل جامدا وراكدا وتاريخيا مادام صاحبه، الذي يفسره ثم يطرحه في الساحة الاجتماعية والدينية، غير متجدّد في أسسه الكلامية والفلسفية، أو بعبارة أخرى، مادام مفسر الفقه لايستند في علمه إلى النظريات والمفاهيم العلمية الحديثة، ومادام علم الكلام وعلم أصول الفقه علمَين تاريخيّين قديمين. لذلك لا يمكن أن ننتظر من الفقهاء أي خطوة باتجاه تجديد الفهم الديني ما داموا غير حداثيين وغير منفتحين على النظريات والمفاهيم الجديدة. فهم على سبيل المثال ينظّرون لتجديد وسائل التعبّد من صلاة وصيام وحج وغيرها لجعلها تتوافق مع ظروف الحياة المتغيرة، لكنهم لا يؤسسون لتديّن جديد يستطيع الذوبان في الحياة الحديثة. بمعنى أن همّهم منصب على إيجاد قوانين فقهية تسهل طقوس التعبّد في ظروف مناخية وجغرافية وحياتية مختلفة، لكن مساهماتهم تلك لا تستطيع أن تتعدى ذلك الأمر، في حين أنهم عاجزون عن ربط التعبّد ووسائله بالتغيرات التي حدثت في أسس الحياة، مثل النظرة إلى مفهوم الحرية والتعددية واحترام حقوق الإنسان. لذلك نجد الطقوس الدينية، كطقوس الشيعة في عاشوراء، تبتعد مسافات شاسعة عن الحياة الحديثة. فعلاقة الفقه مقطوعة بالقراءة التاريخية للدين وحياة الرسول الأكرم والأئمة والصحابة والتاريخ الإسلامي بشكل عام. ومن غير المسموح الاقتراب من منطقة الإيديولوجيات والمسلّمات التاريخية تلك، ولو اقترب شخص من تلك المنطقة يكون كمن مسّ منطقة محرمة، منطقة ينبني عليها أساس حياة المسلمين وفقههم وأخلاقهم وطرق عيشهم.


ويؤكد الفقهاء على أنه من الضرورة بمكان ألا يقطع الإنسان المتدين علاقته بتاريخ الدين وطقوسه من دون نقده. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو الوصف الذي يمكن أن يُطلق على إنسان يؤمن بالله وبعقائد الدين الإسلامي، لكنه يريد أن ينتقد أو quot;يفلترquot; أو يقطع علاقته بتاريخ الدين وطقوسه؟ فمن يقطع أو يفلتر علاقته تلك هو في الواقع لم يقطع علاقته بالله أو بالوحي، إنما أراد أن يضع حدا لعلاقته التقليدية بالتاريخ الديني والقائمة على التبعية والتقليد والخضوع لكل ما يتناقض مع واقع الحياة وتطورها وتغيّرها، لإحساسه بأن تلك العلاقة لا تتماشى مع حياته الجديدة حياة الحداثة، ولقناعته أيضا بأن هناك تضادا بين الاثنين من شأنه أن يؤثر في عقيدته، وقد يمثل ذلك عائقا في طريق إيمانه، ورفعه يسهل ذلك ويجعل حياته أكثر سلاسة حيث سيبعدها عن أي تصادم تشكله تناقضات تركيب الماضي الديني التاريخي على الحاضر الحديث.


لكن المعضلة في هذا الطلاق أو الفلترة، بين ما هو عقيدة وإيمان وبين تاريخ الدين، هو السؤال التالي: ضمن أي دين ومذهب ديني سوف يتم تصنيف صاحبه؟ فالمشكلة لا تكمن في طلاق هذا التاريخ وإيجاد رؤى وآليات تعين أمر الإيمان ولا تتعارض مع العقيدة، بل تكمن في المواجهة المتوقعة مع المؤسسة الدينية وخطابها الوصائي الإقصائي. فتلك المؤسسة، بسلطاتها القوية والمتعددة، سوف تعمل على إلغاء حامل هذا النوع من الإيمان وهذا الطرح من الرؤى الدينية، وتجهد لإخراجه من الدين والملة، وتتهمه بجملة من التهم التكفيرية الإلحادية، بعدما تنصّب نفسها سلطة سماوية على الأرض. ثم بعد ذلك تدّعي وتزعم وتصرخ بأعلى صوتها، أن تفسيرها الديني يحمل مقوّمات التسامح واحترام حقوق الإنسان!.


والإنسان الذي يعيش وسط عالم الحداثة، الإنسان الذي يرفض بنيان الحياة القديمة، المستندة إلى أطر الثقافة الدينية التقليدية الغيبية، القائمة على مبدأ ما هو quot;مقدّرquot; وquot;مقسومquot; وquot;مكتوبquot;، بعد أن كان quot;التقديرquot; الإلهي وquot;النصيبquot; الديني يسيطران بصورة رئيسية على التفكير ويبنيان ثقافة الخرافة والخضوع وسلطة الطاعة والتبعية، الإنسان الذي يعيش وسط حياة قائمة على quot;اختيارquot; الأطر التي لابد أن يعيش تحت ظلها ولا مجال لـquot;إجبارquot; أي شخص على الخضوع أو الركوع لإطار فكري معين، سواء كان دينيا تقديريا غيبيا أو كان غير ذلك، هل يستطيع أن يطلق صيحة عالية يقول فيها بأنه مسلم لكنه لا ينتمي، بل لا يمكن أن ينتمي، إلى المؤسسة الدينية التقليدية التاريخية، ولا يخضع لسلطاتها، دون أن تخرجه تلك المؤسسة من الدين، ودون أن تزعزع كيانه الاجتماعي؟ إن الإجابة هي quot;لاquot; بالمطلق.


يمكن وصف الحياة الجديدة بأنها ثورة في جميع أبعاد الحياة بما فيها الدينية. لكن الفقهاء رفضوا تلك الثورة وواجهوها بكل ما يملكون من سلاح، مستندين في ذلك إلى النقل أو النص التاريخي، واشترطوا لقبول أي منجز عقلي جديد أن يكون متوافقا مع التاريخ ومع التراث، وبالتالي مع خطابهم الديني. فالبعض منهم أظهر قبوله لبعض أطر الحداثة ليستغل وسائلها لتحقيق مآربه. فيما البعض الآخر واجهها بكل صراحة ووقف في الضد منها، وبالذات مفاهيمها التي باتت تشكل تهديدا رئيسيا لمفاهيمه القديمة التي يستند إليها لدعم سلطته الدينية. لقد ظهرت بفضل الحداثة مفاهيم جديدة في الحياة، كما تغيرت العديد منها ممن كانت تمثل أسس الحياة القديمة. لذلك عارض الفقهاء هذا التجدد وواجهوا هذا التغيّر، وكانت المواجهة في كثير من الأحيان عنيفة، واعتبروا الأمر بمثابة تحد للدين من شأنه أن يعرض للخطر الصورة التاريخية الكامنة في ذهنهم بشأن الحياة.


إن الحياة الجديدة هي انقلاب بكل المقاييس على الحياة القديمة. فكيف يمكن لأنصار القديم والماضي والتراث أن يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء ذلك؟ كيف يمكنهم أن يستغنوا عن مفاهيم بنت لهم قوتهم وحضورهم في المجتمعات؟ ففي الحياة الحديثة توجد علاقة وثيقة بين منابع المعرفة القديمة، التي كانت جزءا من حياة الإنسان وهي الآن في طور الزوال، وبين منابع المعرفة الحديثة. لكن كل قديم من شأنه أن يفنى ما دام الجديد قادرا على أن يحل مكانه. فالحداثة هي بمثابة عملية استبدال الأجساد الميتة بأجساد جديدة حية. والإنسان حينما يصل إلى مرحلة يستنتج خلالها أن الآلة المحركة لمنابعه لم تعد تشتغل بصورة جيدة أو أنها فقدت تأثيرها في الحياة، سوف يتجه بصورة طبيعية إلى منابع أخرى قادرة على الإنتاج. هذا المبدأ يعتبر بالنسبة لأنصار الدين التقليدي التاريخي من فقهاء ورجال دين وغيرهم، أحد التحديات الرئيسية التي يجب أن يواجهوها، إذ يستند اعتقادهم إلى عدم التفريط بالقديم ولو كان الجديد أفضل منه.


والفقهاء لا يزالون يدافعون، بكل ما يملكون من عزم ديني وقدرة سياسية وتهديد فقهي قانوني، عن الأطر التي تشجع مفاهيم quot;المقدرquot; وquot;المكتوبquot;، ولا يزالون يعتقدون أن أمور الحياة تسير وفق العقل التاريخي القديم المستند إلى المفاهيم القديمة، لا العقل العلمي التجريبي الحر المستقل عنها، وهو ما نشاهده بقوة في عاشوراء بين جميع الخطباء. لذلك هم لا يساهمون في تحديث المجتمعات، بل هم مساهمون نشطون في إرجاع المجتمعات إلى الوراء التاريخي، رغم إنهم مستفيدون من الحداثة لتحقيق مآربهم الشخصية والفئوية والسلطوية ومصالحهم الضيقة.

فاخر السلطان

كاتب كويتي
[email protected]