كلما زادت التجارب الديمقراطية في المجتمعات المُنتَقِلة من الحكم الإستبدادي الى الحكم الديمقراطي، زاد معها الوعي بالمفاهيم الديمقراطية ومبادئها أوقيمها ومعانيها. ولا ثمة ديمقراطية جاهزة ومُنجزة من تلقاء رفع العبارات والشعارات المعنية بها إلا بعد إدخالها في أتون التجارب والوقوع في الأخطاء والمغالطات أوالمخالفات والإشكاليات ومن ثم تحسين مسار تعييناتها على أرض الواقع أوإصلاح مفاهيمها الناقصة والقاصرة في تقدير الأمور، أي تجديد الوعي بها من خلال الخبرات المكتسبة أوالممارسات المُتبعة لإيجاد محاسنها وصلاحياتها في حل الأزمات والإشكاليات السياسية والمجتمعية.

بمعنى آخر، أن الديمقراطية هي نظام، ولكن ليس نظاماً جاهزاً أومُنجَزاً بمجرد إعتبارها كذلك، ولا تكون هكذا أبداً حتى وإن حددنا معالمها كنظام في الدساتير والقوانين وشخّصنا مبادئها وقيمها، وإنما هي قبل أي شيء تجسيد لإرادة الداعين الى الديمقراطية وصراعهم أيضاً مع كل من يواجه هذه الإرادة، أي نتاج الوعي السياسي والإجتماعي المُنخرط في ممارسة الطقوس الديمقراطية والآليات المرتبطة بها في تنظيم الدولة والمجتمع، بمعنى أنها، أي الديمقراطية، هي توجيه الإرادات والأهداف والسياسات بعقليات ساعية الى دمقرطة الحياة السياسية والإجتماعية فعلاً وكذلك بروحية خالية من نزعات الصهر والقهر، أوالإقصاء والإستبعاد أوالتسلط والتكبُّر، كما وبمبدأ العمل وليس التمسك بالشعارات، ذلك لأن الديمقراطية كما يقول الفيلسوف العربي ldquo;علي حربrdquo; بحاجة دوماً الى من يدافع عنها يومياً فضلاً عن إنها إبداع سياسي على حد قول المفكر الفرنسي ldquo;آلان باديوrdquo;.


وكذا الحال علينا نحن أيضاً كعراقيين أن نفهم الديمقراطية على أنها مشروع بحاجة الى مخاض وصراعات طويلة ولا يتحقق بين ليلة وضحاها ولم يكن تحقيق الديمقراطية في أي بقعة من العالم أمراً سهل المنال بل ولدت عادةً بعد صراعات مريرة سياسية وإجتماعية وفكرية وإصلاحية فضلاً عن ثورات شرائحية أومجتمعية في حقول العلم والمعرفة أوالأقتصاد والفلسفة، أي أنها في النهاية ليست في صورة الكعكة الجاهزة والهدية المعلبة التي نحصل عليها ونتمتع بمحاسنها وحلاوتها بمجرد فتح غلافها أوالنظر اليها أوالتباهي بمنظر قيمتها المعروفة وسمعتها الحلوة في تجارب المجتمعات الأخرى. الديمقراطية ليست شعاراً نتسلح بها حتى نحجب بها أساليبنا غير الديمقراطية في الحياة السياسية والمجتمعية ولا هي موضة تليق بكل من يريد أن يتمظهر فيها بمظهر الحزب العصري أوالتيار الإنساني أوالخط الحضاري وإنما علينا أن نفهم أنها بناء مؤسسات وعقول ونُخَب تأخذ شرعيتها في توجه الدولة والمجتمع وتنظم العلاقة بينهما على الأسس التي تعمق الوعي الديمقراطي والتواصل الوطني والتناغم الحضاري والقيم التي تكرس مبدأ المواطنة والمساواة والعدالة الإجتماعية والسلم المجتمعي والقبول بالآخر المختلف فكرياً وقومياً وطائفياً والنظر اليهم كمواطنين.
وبما أننا ندخل مع إجراء إنتخابات مجالس المحافظات في تجربة جديدة لإرادتنا الديمقراطية، فينبغي على الجميع، دولةً ومجتمعاً، الإلتزام الكامل بالأجواء والطقوس المتبعة في العالم في تمرير مثل هذه التجارب ومن خلالها تقديم صورة حسنة للعالم عن قدرة العراقيين جميعاً في إدارة تجربتهم الديمقراطية، وكذلك الإلتزام بحرية الناخب والمقترع وتوفير الأجواءالمناسبة له وعدم ممارسة سياسات الإكراه السياسي على أي مواطن من أجل تغيير أختياره لأي قائمة بل تأمين كافة مستلزماته حتى يدلي بصوته بمحض الإرادة، ذلك لأن لا معنى للديمقراطية أصلاً من دون حرية الإختيار، وهنا يبرز دور الأجهزة المراقبة لسير عمليات الإنتخابات وخاصة أجهزة الدولة وأهمية نظر منتسبيها جميعاً للمواطنين بعيون متساوية ودون أي تمييز والتعامل مع الكل كمواطن متمتع بحق الإختيار والإدلاء بالصوت، وربما يأتي بعد ذلك دور الأحزاب والقوائم المشاركة في هذه التجربة في تسهيل الأمور للمواطنين وحثهم على المشاركة والحفاظ على حقهم في التصويت، فإذا تمكننا من أن نوفر كل هذه الشروط الأساسية لإجراء هذه الإنتخابات بإمكاننا القول آنذاك أننا خرجنا من هذا الإمتحان أيضاً منتصرين: نُصرة لنا وللديمقراطية أيضاً.

عدالت عبدالله