هنالك مقولات تقال وتردد، مثل quot; قلي ماذا تأكل..؟ أقل لك من أنت،quot; وقلي quot; ماذا تلبس..؟ أقل لك من أنت،quot; وما شابه ذلك من مقولات، قد يفصح الجواب عليها، علامات ودلائل تنبئ عن معرفة من أمامك وتساعدك على سبر أغوار شخصيته. وأنا أعتقد بأن أصدق مقولة يمكن بأن تنبئنا عن شخصية من أمامنا، وتسبر لنا أغوار ومجاهل ومنحنيات شخصيته، هي وبلا منازع، مقولة quot; قلي من ربك..؟ أقل لك من أنت.quot; وعادتً فأنت لا تحتاج لعناء طرح مثل هذا السؤال علي من يقابلك أو يجالسك، حيث هو يتطوع محتسباً لربه، ليقول لك من ربه، ليوزع ذاته على ذاتك، بعد أن يصبغ عليها صبغة القداسة الربانية والطهارة السماوية؛ ليسلم هو، من عناء التبريرات والتفسيرات التي قد تطرحها عليه، حيث هو أبعد ما يكون عن معرفة حقيقتها ناهيك عن سبر أغوارها، quot;فكل إناء بما فيه ينضح،quot; لا غير.


فنفسية الإنسان، التي تعبر عنها أرائه وأفكاره ومعتقداته وبالتالي تظهر على سلوكياته، من المفترض بأنها الأقرب له، من أي شيء أخر، وعليه الأسهل عليه فهمها؛ ولكنها في الحقيقة، قد تكون أبعد شيء عن فهمه من فهم أي شيء أخر. بعكس جسده، الذي إذا مرض أو عطب جزء منه، فهو الوحيد الذي يشعر به ويتألم منه، دون غيره. ولذلك فهو يهرع لأقرب عيادة طبية طلباً للعون وسعياً للتخلص من آلامه الجسدية، التي تقض مضجعة وتنغص عليه حياته واطمئنانه، دون غيره من الناس.


أما إذا أصاب نفسية الإنسان عطباً عارضاً أو تشوهاً مزمناً، فهو أخر من يشعر به؛ حيث آلام هذا العطب والتشوه النفسي التي تعتريه، لا تصيبه بأي آلام أو وجع، ولكن تصيب من حوله بذلك. وقد يكون العكس صحيح، فكلما أستفحل فيه العطب أو التشوه النفسي، وحس بآن الآخر يتألم ويتوجع منه، أزداد نشوةً وطرباً وتمادياً في إيلامه. وعدم قدرته على اكتشاف ذلك، لدليل على أن شخصيته مشوهة ومصابة بالعطب النفسي بشكل عام ومزمن. وهنالك من يصاب بالعطب أو التشوه النفسي، ويشعر بذلك، ويتألم من جراء شعوره وإحساسه، بتألم الآخرين من عطبه وتشوهه النفسي؛ فيذهب لأقرب عيادة نفسية، ويطلب المساعدة ويأخذ بأسباب الشفاء منها. ومن يفعل ذلك، فمصاب بعرض نفسي، لا بمرض نفسي، أما صحته النفسية بشكل عام فسليمة، ولذلك فهي التي تمنحه الشجاعة للتخلص من عرضه النفسي الطارئ، لتحاشي إيذا وإيلام الآخرين.


وهنالك نوع من المرضى النفسانيين، الذين لا يستوعبون بأنهم كذلك؛ ولكن يحملون بدواخلهم حس إنساني نبيل تجاه من يعيشون حولهم والآخرين، ويتمتعون بشجاعة لا تضاهى. فيتآلمون من تألم الآخرين منهم؛ فلا يحتملون ذلك، فينتنحرون. وهذه النوعية من المرضى النفسانيين هم ندرة بيننا، أو يكادون ينعدمون، ولذلك فهم خارج نطاق معالجة هذا المقال.
إذاً فالمراجعون للعيادات النفسية، هم ليسوا بالتأكيد مرضى نفسانيون، ولكنهم مصابون بعوارض نفسية. أما المرضى النفسانيون الحقيقيون فهم الذين لا يفهمون بأنهم كذلك، ولا يقرون بذلك، برغم إيذائهم المرضي، لمن حولهم، وللبعيدين عنهم، سواء بسواء. ويعتبرون أمراضهم وتشوهاتهم النفسية هي الصحة النفسية بعينها، وما عداها فأخطاء ورزايا وكبائر تشوب عقائد غيرهم، لم يفهمها أو يستوعبها غيرهم هم. ومن هؤلاء من يتحركون بفعالية بيننا، في شوارعنا وفي دوائرنا الحكومية، وجمعياتنا الخيرية والأهلية ومحافلنا وبرامجنا التربوية والثقافية ووسائلنا الإعلامية، وكذلك في بيوتنا ودور عباداتنا وغيرها من محافلنا الرسمية وغير الرسمية، ويربون أسر صغيرة وكبيرة، ومنهم من يتولى المناصب العامة، الرسمية منها والخاصة، التشريعية والقضائية، ويتحكمون بمصائر ومصادر أرزاق الآخرين ويتلذذون في ذلك. وتجدهم دوماً، يدعون زوراً وبهتاناً بأنهم يحبون الخير للناس، ويتظاهرون بذلك، ويعملون عليه، وهم في الحقيقة أكثر المخلوقات خطورة وإيذاء للناس وبلاء عليهم. وهؤلاء هم كوارث داخل أسرهم ودوائرهم ومجتمعاتهم، أو هم مشاريع كوارث قادمة لها.


والسؤال هو كيف نعرف مريض التشوهات النفسية من غيره؟ خاصة إذا كان لا يعترف بتشوهه النفسي، ويصر عليه ويكابر، ويعتبر عداه من الأصحاء، من يستحق العلاج العقدي والعقاب البدني. الجواب على ذلك أبسط من ما يتصوره المريض نفسه؛ وهو فقط أطرح عليه، سؤال من هو ربك..؟ وماهي صفاته..؟ أو أسمع منه مواصفات ربه. أو أستمع له، وهو يعلق على الأحداث التي تدور حوله أو حتى البعيدة عنه، ويبدي أرائه فيها، تفصيلاً وتحليلاً.
فمن يعتقد بأن طفل فلان أو فلانة، قد ولد مشوهاً خلقياً، أو عائلة فلان أو فلانة، ماتوا بحادث سير أو حريق، قد أحدثها الله عقاباً لفلان أو فلانة، من ذنوب أو معاصي أقترفها أو أقترفتها، ولو لم تكن من الكبائر أو التي لا يعاقب عليها الشرع، وقد تكون كذلك من مسائل الخلاف بين العلماء. ويصدح بذلك وبلغة تلذذ وتشفي؛ لهو وبلا ريب أو شك مريض نفسي، يعاني من مرض اضطراب الشخصية، ولو سنحت الفرصة لمثل هذا المريض، وضمن عدم معاقبته، لأوقع بأطفال فلان أو فلانه مثل هذه الكوارث، التي يعتبر بأن الرب قد أوقعها بهم، وبالتأكيد بأنه يتمنى بأن يقع مثل ذلك بأطفال من لا يحبهم. ولو حدثت كوارث عائلية أو مالية أو صحية له، أو لأشخاص يحبهم؛ هنا ينقلب تحليله وتبريره رأس على عقب، ويصبح ابتلاء من الرب وامتحان لعباده الصالحين...!!!


إذاً فالرب بالنسبة له، ليس العادل المنصف، الحكيم الحليم الغفور الرحمن الرحيم، ولكنه الجائر المعتدي، المعاقب المدمر المنتقم المتسلط المتجبر المتكبر المتغطرس، المتلذذ بإيذاء خلقه ولو كانوا أطفال لا حيلة ولا ذنب لهم. وهذا الرب الذي يعبر عنه مريض اضطراب الشخصية، هو الرب الذي في الحقيقة، يقبع بتعفن في قيعان نفسيته المشوهة والمريضة، وتحركه نفسيته المضطربة بريموتها، عطب المنطق والذوق والخالي من أية إنسانية يميناً ويساراً وكأنه رشاش إرهابي أشر. كما أن من يتحدث أو يخطب أو يكتب بطائفية مقيتة وعصبية وعنصرية نتنة، يحط من أناس لا يعرفهم ويطالب بعقابهم وإيذائهم وبإقصائهم وقطع أرزاقهم، والتضييق عليهم في حياتهم وعلى أطفالهم، وحتى لو سنحت الفرصة لقتلهم قتلهم وإبادتهم. ويصدح بأقواله، والتي هي في الحقيقة، أمنياته، اللا إنسانية واللا وطنية والبشعة أخلاقياً وسلوكياً ووطنياً تقرباً للرب، فهو مصاب أيضاً وبلا شك أو ريب بمرض اضطراب الشخصية.


وكلما علا صراخه وعويله، يكون قد استفحل وتمكن منه المرض، وتحول لهستيريا اضطراب الشخصية. عندها تصبح سلوكياته المريضة المشوهة، مقدسة بالنسبة له، حيث يلبسها لبوساً ربانية، ويصبح الجهر والتبشير بها ونشرها، بالنسبة له، رسالة ربانية، أي يؤجر عليها، لا يردع بسبب إيذائه الآخرين بها. ومريض اضطراب الشخصية الهستيرية، دوماً يسعى ويطالب بسرعة تطبيق مخططاته المرضية الهستيرية، وبمكافأته بالدنيا والآخرة، على احتفاظه بمرضه الخطير المزمن، وتوزيع وبائه هذا، بكرم وسخاء على الأصحاء. ونقيضهم هم، الأصحاء المؤمنين الأتقياء والأنقياء الذين يسعون ويكافحون ويناضلون ويجاهدون من أجل تنقية وتطهير صفات رب العزة والجلال، من كل ما تقذفه أللسنة وأقلام مرضى اضطرابات الشخصية الهستيرية، من أوصاف يخجل منها ويتبرأ منها حتى أعتا مجرمي البشر وطغاتهم، من أن تلصق بهم، ولو كانوا فعلاً يقترفونها.
وبما إن مرضى اضطرابات الشخصية الهستيرية موجودون بيننا في القرن الواحد والعشرين، وفي كثير من المجتمعات، ولم يكتشفوا أنفسهم، ولم يتطوع أحد حتى الآن لاكتشافهم، ومحاولة مداواتهم، بل بمداراتهم خوفاً منهم لا حباً بهم؛ إذاً ماذا نقول عن مضطربي الشخصية الهستيرية الذين سادوا وبادوا، في الأزمان السابقة. خاصة كون مريض اضطراب الشخصية الهستيرية، قد يتسلق مناصب عالية، ويحصل على شهادات عالية، دون أن يكتشف نفسه أو يكتشفه من حوله أنه كذلك. خاصة كون التراث البشري مليء بمستنقعات أدبيات مرضى اضطرابات الشخصية الهستيرية، التي يصبغون عليها قداسة الوحي، والتي بدورها، تفرخ وتغذي وتدعم وتعمق وتأزم المرض عصراً بعد أخر، بسبب التراكمية التي تغذي مستنقعات التراث ( المقدسة )، الموبوءة بجراثيم وطفيليات وطحالب هذا المرض النفسي العضال.


ولذلك فليس بالمستغرب بأن يغترف من هذا التراث البشري، الديني والتاريخي والاجتماعي كل من يريد بأن يصف ربه، كما هو يريده بأن يكون، لا كما هو رب العزة والجلال كائن، تبارك وتعالى عما يصفون. فالمسألة إذاً هي مسألة إسقاط نفسي لا غير؛ وعليه تصدق مقولة quot; قلي من ربك..؟ أقل لك من أنت.quot;