من الملاحظات الصارخة التي تعكس أزمة رؤيوية واضحة، هي ميل البعض نحو تحميل المقاومات في المنطقة عواقب ما تقوم به آلات الموت الصهيونية من أعمال إجرامية تؤدي لخسائر فادحة في الممتلكات أو الأرواح في أراضي المواجهات الساخنة في الإقليم، هذه الأيام، كونها تبنت خيار المواجهة والمقاومة، وأنها بذلك تعطي الذريعة لإسرائيل في كل مرة لشن عدوان جديد. غير أنه، ومن الجدير ذكره، قبل المضي أبعد في هذا المضمار، هو أن تلك المواجهات، وبرغم الاختلال الكبير في موازين القوى، قد باتت تأخذ طابعا تكتيكياً جديداً تترجح فيه كفة المقاومات، مذ اهتدت تلك المقاومات إلى إستراتيجية إطلاق الصواريخ والرجم ذات البعد والمفهوم الميثي الأسطوري الذي لا يغيب البتة عن جوهر الصراع، والتي- الإستراتيجية- قوضت ونسفت مفهوم الأمن الإسرائيلي برمته ومن جذوره، وجعلت أسطورة الفردوس والحلم التوراتي بأرض الميعاد، وهماً، وسراباً، وعلى كف عفريت.

فاليوم، وطبقاً لمعايير quot;الرجمquot; الأسطورية الصاروخية المستحدثة، أصبح بمقدور أية جماعة، لنقل أنها quot;خارجة عن السيطرةquot;، وتمتلك مجموعة من الصواريخ حتى البدائية (من أسطوانات المدافئ أوquot;بواري الصوبياتquot; بالشامي العتيق)، إزعاج وإقلاق راحة هذا الكيان بالصميم، الأمر الذي لم يكن متخيلاً، ولم يكن يدور بخلد أعتى قادته من الليكود أو الكاديما وإسرائيل بيتنا أو العمل، أو أن يصلوا، يوماً، لهذا المأزق، أو الكابوس الاستراتيجي المرعب المخيف. وللمرء أن يتخيل ماذا سيكون عليه الحال لو كان هناك جماعات، لا جماعة واحدة فقط تتبنى هذا الخيار، وليس لها من عمل سوى أن quot;تتسلىquot;، في أوقات فراغها، بإطلاق الصواريخ quot;البدائيةquot;، حسب خطاب البعض، على إسرائيل. يبدو الأمر هنا بحجم كابوس، وأكثر ربما من كارثة إستراتيجية لهذا الكيان. ونكاد نجزم بأن هذا التصور المرعب يكاد لا يغيب اليوم عن بال المحللين والمفكرين الاستراتيجيين والأمنيين الصهاينة ويقض مضاجعهم ليل نهار، والذي لم يكن بمقدور أشدهم تشاؤماً أن يتصوره ذات يوم. إنها صيرورة قتالية جديدة، فرضها تطور آليات الصراع، وأدركت فاعليتها بعض قوى المنطقة لتمارسها بذكاء وحرفنة ودهاء سياسي. وعلينا الاعتراف أنه، وجراء هذا التكتيك الجديد، فقد فقدت إسرائيل زمام المبادرة، تماماً، برغم ترسانتها النووية المرعبة (200 رأس نووي) وتقف اليوم عاجزة عن فعل أي شيء حيال صواريخ quot;بدائيةquot;، فكيف لو لم تكن بدائية؟

وفي السجال الذي يديره مثقفو الاعتدال في تحميل المقاومين مسؤولية الجرائم الإسرائيلية، فلا يمكن للمرء إلا أن يتساءل، في هذا السياق، متى كانت إسرائيل مهادنة ومسالمة؟ ومتى لم ترتكب مجازر بحق شعوب هذه المنطقة الناطقة بالعربية؟ ومتى كانت الحروب والمواجهات العسكرية بدون خسائر على جميع فرقائها المتقاتلين؟ بل متى كانت الحروب، أية حروب، إنسانية وأخلاقية، من حيث المبدأ والأساس؟ لا بل يحاول البعض أن يوهمنا بأن تاريخ الصهاينة في المنطقة هو تاريخ غزلان وديعة، وحملان مسكينة، وحمامات سلام quot;القطquot; يأكل عشاءها، وكانت ملتزمة تاريخياً بتطبيق عشرات القرارات الدولية التي صدرت للجم اندفاعاتها العدوانية المتكررة.

فهل لأحد أن يتصور اليوم، وحسب خطاب ورغبويات البعض، أن تكون هناك مواجهات، حتى لو كانت بين متظاهرين في الشوارع، دون خسائر مادية وبشرية؟ وهل يتوقع أحد أن يتحارب المتحاربون بالورود والرياحين، وأبيات الشعر الغرامية، وبطاقات الغزل، ونحن، بالمناسبة، على أبواب الاحتفال بالفالانتاين؟ وهل يتخيل أحد من هؤلاء الذين تعودوا على حياة الرفاهية، وأجواء الخمس نجوم، أن تتحول الحروب إلى حروب خمس نجوم لا تتأذى فيها إسرائيل، أبداً، ولا يزعج فيها دوي القنابل أحداً، ولا تطلق فيها رصاصة، وتستعمل بها السيوف البلاستيكية، والخناجر الخشبية، والطلقات المطاطية؟

لقد دمر الألمان لندن، وأبادوها عن بكرة أبيها في قصف سجادي Carpet Bombing، ولكن لم نر صوتاً بريطانياً quot;معتدلاًquot; يحمـّل السير ونستون تشرشل مسؤولية الهمجية النازية الألمانية لأنه اختار عدم التهادن معها، والتزم خيار المقاومة الوطني. كما لم نسمع عن أحد لام، وعنـّف الجنرال الفييتنامي الأشهر جياب، ثعلب الفييتكونغ، الذي مرّغ جباه الجنود الأمريكان بالوحل وجعلهم quot;يتعمشقونquot; وهم بسراويلهم الداخلية بطائرات الهيلوكبتر هرباً من جحيم ضربات المقاومة الفييتنامية الباسلة، أو حتى حمـّله، أيضاً، مسؤولية القصف البربري الأمريكي الهمجي الوحشي، لا بل دخل جياب المخيلة والعقل الباطن الفييتنامي كأسطورة حية ومقدسة، جنباً إلى جنب مع هوشي مينه، الذي أطلق اسمه، لاحقاً، على سايغون عاصمة الجنوب بعد تحريرها.

والتناقض والمفارقة تصبح عبثية وذات طبيعة سجالية نكدية تشاكسية وعدمية، حين يأخذ نفس هؤلاء اللائمين على البعض عدم إطلاق أية طلقة في مواقع أخرى من أرض الصراع. فكيف تستوي الدعوة، هنا، لعدم المقاومة، ونفس الدعوة لإعلان الحرب في ذات الوقت؟ ألا تبدو مثل هذه الدعوات، هنا، ومن نفس الأشخاص والأصوات، وبهذه الطريقة، نوعاً من قبيل العبث الصبياني، والضياع وغياب التصور الإستراتيجي الواعي لحقائق التاريخ والجغرافيا وإدارة الصراع، ناهيكم عن عدم وجود تبلور، ورؤية واضحة لمواجهة الغطرسة والعربدة الإسرائيلية.

وما دامت المقاومات تسبب كل هذا الكم من الإزعاج والمغص المزمن للبعض، فإنه من الواجب الاقتراح هنا، أن تكون المواجهات العربية الإسرائيلية المقبلة، ومن اليوم وصاعداً مواجهات، خمس نجوم، نظيفة، هادئة، وصامتة، لا يصدر فيها أي صوت، ولا يتكبد فيها أحد أية خسائر تذكر، ولاسيما على الجانب الإسرائيلي، وأن ننتظر دائماً من إسرائيل أن quot;تتكرمquot; هي علينا، في كل مرة متى تبدأ، وتنهي القتال؟ وكله كرمى لعيون مثقفي الاعتدال الكرام.

نضال نعيسة
[email protected]