لاتمر فترة أو مرحلة زمنية وجيزة إلا و نسمع ونرى فيها أن حزباً آخر قد تشكل أو تياراً آخر قد تأسس أو مجلساً ما قد أعلن عن نفسه أو قبيلة و عشيرة فلانية قد تحولت هي الأخرى الى تنظيم سياسي و ألتحقت بالعمل في حقل السياسة، وذلك كله بأسم الدفاع عن الوطن أو تمثيل الشعب و تطلعاته أو مفاهيم أخرى مرتبطة بخطاب الوطنية. هذه الظاهرة أصبحت لعبة عادية بالنسبة لنا في عراق اليوم، نجدها تمر أمام أعيننا بكل بساطة دون أن نفكر فيها أو نفحص أسبابها أو نكشف دوافعها أو نسأل مبرراتها، أي دون أن نضعها تحت المجهر و نستنتج جدواها أو نخضعها لعملية المَفّهَمة والعقلنة.
والسبب في ذلك ليس لأننا لانشعر بها طبعاً كحالة شاذة أو ظاهرة غريبة وموضع الشك، ولا لأننا لانهتم بها لكونها لاتؤثر على حياتنا السياسة، وإنما لأنه نحن، قبل أي شيء، عاجزين الى حد كبير عن فعل أي شيء تجاه جاذبية الدفاع عن عناوين حماسية من قيبل الوطنية و وحدة العراق، أو الشعارات الديمقراطية أو ترداد الخطاب الديمقراطي الذي عادةً ما يستند اليه ويسوغه، كل تيار أو حزب سياسي، لتشكيله وتأسيس نفسه ويجعل من مفردات هذا الخطاب، لاسيما مفردة التعددية السياسة، سلاحاً سحرياً جذاباً لشرعنة وجوده أو مبررات قيامه أو حسنات تأسيسه.
إذا قرأنا اليوم هذه الظاهرة حسب تسويغاتها التي تُصاحَب هذا الخطاب الديمقراطي، نجد من حيث المبدأ ومنطق الديمقراطية أن ثمة فعلاً شرعية كبيرة لاخلاف عليها لتأسيس أي حزب أو تيار سياسي في العراق، ولا أحد يمكنه مصادرة هذه الشرعية أو مخالفة هذا الحق المصون ديمقراطياً للمجاميع البشرية في تنظيم صفوفهم سياسياً وآيديولوجياً. وإذا قرأنا تاريخ العراق السياسي وطبيعة الأنظمة الحاكمة فيه سيما بعد النصف الثاني من ستينات القرن الماضي أي بعد مجيء حزب البعث العربي الأشتراكي الى سدة الحكم (1968-2003)، سرعان ما نكشف أيضاً أن ثمة فعلاً منابعَ آخرى لهذه الظاهرة التي تُلقي اليوم بظلالها على حياتنا السياسية، أبرز هذه المنابع يُكمن في طبيعة الحكم و النظام السياسي الذي كان قائماًً في بلدنا خلال العشرات السنين الماضية الى يوم عملية تحرير العراق 9/4/2003، فالمعلوم هو أن النظام السابق خلف لنا تاريخاً عريقاً! من الكبت السياسي وأعتَدَنا على أغرب المباديء و أسوءها في كيفية إدارة الدولة و المجتمع، عنيت مبدأ الفرض القسري للحزب الواحد علينا، وجعله لنا قِبلة سياسية دوغمائية لاتقبل أبداً التبديل أو التغيير أو المس بها نقداً أو معارضةً. هذه الخلفية التاريخية التي تأسست تدريجياً من خلال مؤسسات الدولة الآيديولوجية ومن خلال شتى أنواع القمع والإستبداد أنتجت لنا بعد سقوط النظام السابق ظاهرة كثرة الأحزاب والتيارات السياسية بكافة مظاهرها وتجلياتها الإيجابية والسلبية، وهي اليوم مسؤولة أيضاً، بالدرجة الأولى، عن ولادة الإختلافات السياسية المقموعة والمكبوتة وتفجرها على هذا النحو المرضي الذي نراه اليوم لا سيما مع إعلان نسبة الكينات و القوائم و الأحزاب و التيارات و الجمعيات التي شاركت في إنتخابات مجالس المحافظات نهاية شهر الماضي.
والحق نقول، أن هذا التفجر السياسي للمجتمع العراقي بعد عقود من الكبت والحرمان في إختيار الممثلين السياسيين المرغوبين بحرية وتأسيس الحزب البديل المتجاوز لسياسات ومبادئ وأفكار حزب البعث، فيه شيء من المعقولية والموضوعية إذا ما أرتبطت المسألة بالبعد السايكولوجي للظاهرة والذي يُصاحب، كردود أفعال، سياسات البعث وأجراءاته الفاشية والسادية في قمعه العنصري للشعب وتهميشه للمكونات المختلفة سياسياً أو عرقياً أو مذهبياً في المشاركة السياسية في السلطة.
ويمكن للمرء أيضاَ أن يتفهم هذه العقدة السايكولوجية الناجمة أصلاً عن الحرمان والتعبير عن الذات الفردية والجمعية سياسياً وإجتماعياً ويرى فيها نوعاً من التفريغ لما أستجمع في نفسية الإنسان العراقي من طموحات وتمنيات وآمال سياسية جمة لم تتحقق في حينه ولم يُسمح له بالتحقيق أو التعبير عنها، بيد أن القراءة المعمقة والنظر الى الدوافع الأخرى غير المُستَنطَقة للظاهرة وأسبابها الأخرى غير المفكر فيها تقول لنا أن للظاهرة هذه أيضاً أبعاد أخرى لاتتعلق فقط بهذه المسوغات السياسية والديمقراطية ولا ترتبط بحبنا وشغفنا الكبيرين لأقامة نظام ديمقراطي مبني على التعددية السياسية، ولا تعود الى بنية المجتمع العراقي الفسيفسائي فحسب وإنما ثمة جوانب ووجوه أخرى لحقيقة الأمر ينبغي علينا إلقاء الضوء عليها ونقدها وإخراجها من ضُلمات الخطاب وكشف أقنعتها، عنيت هنا ما يخفيه عندنا خطاب التعددية نفسه وما لايقوله في تفسيره لظاهرة تعدد الأحزاب والتيارات السياسية في البلد بهذه الكمية. بمعنى آخر، نود القول أن ثمة أسباب أخرى تقف وراء هذه الظاهرة وجعلتها تتحول نوعاً ما الى حالة مرضية باعثة للحذر والترقب، سيما إذا ما علِمنا أن الأحزاب والتيارات السياسية تتعدد بشكل غير طبيعي وتتفكك معه يوماً بعد يوم الإئتلافات السياسية وتتعمق الخلافات والإنقسامات، وإذا تذكرنا أيضاً أن عدد الكيانات والأحزاب وفقاً للقوائم والأسماء التي أُعلِنَت عنها في إنتخابات مجالس المحافظات الأخيرة وصل الى أكثر من 400 حزباً و تياراً سياسياً أي ما لانجده، بهذا الرقم و الكمية الهائلة، في أي مجتمع آخر.
أبرز الأسباب التي تفسر هذه الظاهرة هو أننا، بخلاف ما ندعي ونردد و ندلي به من تصريحات في القنوات الإعلامية والندوات الجماهيرية، أخفقنا تماماً في تشييد الأسس الوطنية والعقلانية حتى الآن التي تبرر تشكيلنا لهذا الكم الهائل من الأحزاب والتيارات، كما أننا عاجزين عن فهم تعدديتنا المفرطة بينما نعلم أن قضايانا والهواجس السياسية للكثير منا والتي نعبر عنها يومياً، على الأقل على مستوى الخطاب والشعارات، قريبة عن البعض إن لم نقل واحدة.
هذا الأخفاق أو العجز في تنظيم حياتنا السياسية لاتسوغه أبداً الأسباب الموضوعية التي ذكرناها في البداية، وإنما راجع الى أننا لانجيد لغة الحوار، وأننا لانشتغل على إيجاد القواسم المشتركة الوطنية، لا الطائفية و العرقية، فيما بيننا لنستقوي صفوفنا ونستجمع طاقاتنا المهدورة، ولا نحترم بعضنا البعض، ونعتقد أن الحقيقة هي وحسب ما نرددها نحن من شعارات وأفكار أومشاريع وأدلوجات دون سوانا، كما أننا نتفنن في الأقصاء الرمزي والفيزيقي لبعضنا البعض أو أننا نتهم الآخر الفاعل معنا أو نقلل من شأنه أو نخونه ونعاديه ليس لشيء آخر سوى لأنه لايتماهى معنا كما نريد أو لايحمل الخطاب نفسه ما نحمله نحن أو لا يردد المقولات التي نرددها.
من جانب آخر، تعود هذه الظاهرة، أي كثرة الأحزاب والتيارات السياسية لدينا، الى الطبيعة الإنغلاقية للفئات المؤسسة لها وإيمانها بأنها هي على الصراط المستقيم والآخرين على الظلال والباطل. والدليل هو أننا نلمس في خطاب أغلب أحزابنا السياسية تقييماً جهنمياً يقوم على الثنائيات الخطيرة، أي على إدعاء حزب ما بأنه الحزب الوطني والآخرين عملاء وخونة، أو أنه المدافع عن الإسلام والباقيين مرتدين وغربويين أو أنه الديمقراطي والليبرالي والبقية من الشوفينيين والفاشيين.
هذا التصورات والإعتقادات والأسقاطات السائدة في أوساط بعض الأحزاب والتيارات السياسية لدينا والتي لاتصدر إلا عن عقلية إقصائية لاتنتج لنا في النهاية سوى ولادة المزيد من الأحزاب والتيارات، ولا تمهد الطريق أمام أي تفاهم وطني أو تعاطي ديمقراطي يشكل إطاراً للتجمع والإجتماع السياسي البناء في أحزاب وطنية وديمقراطية قوية، والأسوء من ذلك هو أنها كانت وراء التحارب والأقتتال الذي نشب بين بعض من التيارات والأحزاب السياسية في الفترة الماضية ولا تزال مشجعة للمزيد منها، الأمر الذي يجعلنا نوجز الكلام ونقول بإختصار: إن التعددية السياسية السائدة في العراق ليست تعددية سليمة، ولا خالية من الإشكاليات الكارثية، وهذا بحد ذاته يحملنا على أن يعيد كل حزب أو تيار سياسي عندنا مبررات وجوده الضعيف على الساحة السياسة وإعادة النظر في الأسس التي تشرعن تشكيله، وذلك على ضوء المستجدات السياسية للبلد والأزمات والمشاكل والتحديات التي يمر بها وحاجة البلد الى التوافق والتصالح والتلاحم.
عدالت عبدالله
التعليقات