في شهر رمضان 1426هـ الذي صادف شهر تشرين الأول /أكتوبر من العام 2005، وقبيل انتخابات العراق البرلمانية التي جرت في نهاية العام نفسه بقليل، جمعتنا المصادفة في جدة مع عدد من كبار الكتاب الصحفيين السعوديين، منهم الأساتذة عبد الرحمن الراشد وطارق الحميد ومشاري الذايدي، وعدد من كبار المسؤولين السعوديين المتخصصين بالشأن العراقي. وجرنا الحديث بالضرورة إلى العراق وانتخاباته القادمة، فراح كل من الزملاء يدلي بدلوه ويسرد توقعاته بشأن الفائزين المحتملين فيها. وكان ما يشبه الإجماع على احتمال فوز أياد علاوي بالأغلبية الساحقة، وعودته ظافرا مظفرا إلى كرسي رئاسة الوزارة. وسرد الزملاء أسبابهم لتلك التوقعات، وكان أبرزها أولا، لأنه العلماني القوي يستطيع أن يخرج الشعب العراقي من حالة القلق العام والغليان، بعد أن مل من سطوة الأحزاب والمليشيات الدينية الطائفية والعنصرية، ومن حالة الفرقة والاقتتال وانعدام الخدمات. وثانيا، بسبب جذوره البعثية فهو قادر على سحب الغطاء السني لمجموعات المقاومة، وخاصة جيوش التحرير الإسلامية السنية، وفي مقدمتها القاعدة، والتي تتمول وتتغذى من فلول البعث وأنصار النظام المهزوم، وذلك من خلال قدرته على استقطاب الجماهير الواسعة ذات الميول البعثية، في المحافظات السنية، مثل صلاح الدين والأنبار وديالى والموصل وغيرها. وثالثا أضافوا إلى ذلك الأقوى والأهم من كل ما سبق، وهو دعم قوات الاحتلال لأياد علاوي وحلفائه الشيوعيين والجنابيين وأنصار الجادرجي والباجه جي. وباعتباره شيعيا، فأمريكا تريد استخدامه أداة لكسر شوكة التطرف الشيعي الطائفي والنفوذ الإيراني في المحافظات الجنوبية. وتحرج الزملاء من إضافة الدعم غير المحدود من اللجنة السداسية المشكلة من مخابرات السعودية والأردن والكويت والإمارات ومصر وتركيا خصيصا لمعالجة الملف العراقي.

ثم جاء دوري في الحديث. قلت أتفق مع الأساتذة في الكثير مما عرضوه من عوامل حاسمة تتحكم في مزاج الشارع العراقي الذي بلغ به الملل أقصى حدوده من الفوضى العارمة التي تجتاح العراق، من جنوبه إلى شماله، ومن شرقه إلى غربه. وأتفق أيضا على أن الناخب العراقي يبحث عن طوق نجاة يخرجه من هذا الواقع المأساوي المخيف. وأتفق أيضا على أن الأحزاب الدينية التي اقتسمت الغنيمة، شيعية وسنية، لم تحقق للمواطن الشيعي ولا السني ما يبحث عنه، بل عمقت الفراغ، ووسعت الخلاف بين الطوائف والقوميات وحتى المدن وأحيائها. وأتفق أيضا على أن المتوفر حاليا لأياد علاوي من دعم مالي وسياسي وإعلامي أمريكي وعربي ضخم وهائل كفيل بتمكين أي مرشح من اكتساح منافسيه مهما كانت قوتهم العشائرية والدينية والطائفية. ولكنني أريد أن أشير فقط إلى مسألة صغيرة غابت عن فطنة الزملاء. وهي أن غالبية الناخبين العراقيين اليوم غير متعلمة وغارقة في جهالة الطائفة والعنصر والعشيرة. ولهذا فإن ما سوف يقود الناخب لا برامج المرشح الانتخابية، ولا سمعته السيئة أو النظيفة، ولا علمانيته أو دينيته، بل أصله وفصله، ومدى قربه أو بعده من المرجعية، ورضا العشيرة عنه، وسجله في العطايا والهدايا والراوتب والمناصب.

هذا مضاف إلى أن من الواجب أن نتذكر أن علاوي خاض الانتخابات السابقة في نهاية العام 2004 وهو رئيس وزراء يستميل الأتباع والمريدين بوظائف الدولة وأموالها وعقودها ومشاريعها، ومغطى بدعم أمريكي لا حدود له، ورعاية عربية ضخمة، إعلاميا وماليا وسياسيا، ومع كل ذلك حصل فقط على 42 مقعدا من 375، هو وكل حلفائه الشيوعيين والبعثيين والجنابيين والجارجيين والباجه جيين وغيرهم.
وأضفت: أياد علاوي سيخوض انتخابات العام الحالي، 2005، وهو ليس رئيس وزراء يشتري ولاء الناخبين بأموال الدولة ووظائفها ومشاريعها، وفاقد للدعم الأمريكي السابق غير المحدود، ومحمل بأخطاء كبيرة قاتلة ارتكبها بغرور رئيس الوزراء القوي الذي لا يبالي بالعواقب، تشبها بصدام حسين، فأحرق الفلوجة على رؤوس نسائها وشيوخها وأطفالها، بوهم القضاء على المقاومة فيها. ثم دك النجف الأشرف بالقنابل والصواريخ لكي يثبت للأمريكان أنه الوحيد القادر على تخليصهم من صداع مقدى الصدر باستئصال شأفة الصدريين ومليشياتهم التي عبثت بالمدينة وأمن أهلها أيما عبث.

ولأنني أعرف شعبي جيدا، فقد توقعت يومها، في تلك الجلسة، أن يقذفه الناس في النجف أو الفلوجة بالأحذية إذا ما تجرأ وزارها ضمن حملة دعايته الانتخابية. وراهنت على ألا يحصل في الانتخابات القادمة على أكثر من 20 مقعدا، هو وكل حلفائه في قائمته العراقية الموقرة.

وهكذا كان. أخطأ ذات يوم، فدخل النجف وانهالت عليه الأحذية من كل حدب وصوب. وحصلت قائمته العتيدة على 24 مقعدا من 375.

في الانتخابات القادمة التي ستجرى نهاية هذا العام، 2009، سنكون أمام احتمالين. الآول أن يفوز حلفاء المالكي بالأغلبية، ولا يحصل مخالفوه المتحالفون ضده على شيء ذي أهمية. لا لأنهم أقوى وأكثر صدقا وأقرب إلى نبض الشارع العراقي، بل لأنهم أذكى من قادة القوائم الطائفية والعنصرية الأخرى. فقد شعروا بقرف الناس من الخداع الديني والقومي، فعمدوا إلى تغليف محاصصتهم الطائفية الجديدة ببراقع القانون والديمقراطية والتقدمية. وقد يتمكنون، بحكم مواقعهم في السلطة، من إرضاء ناخبيهم، في الأشهر الباقية، ببعض المكاسب العاجلة، حتى وإن كانت بسيطة وهامشية.

الاحتمال الثاني أن تشق الجماهير أكفانها الثقيلة، وتخرج من فورة الغليان الشعبي العميقة الراهنة قيادات بديلة من طبقة التكنوقراط، مثلما حدث في بلدان أخرى عديدة أثبتت شعوبها أنها حية وقوية وشجاعة. في هذه الحالة المتوقعة والمحتملة جدا لن يكتب لأحد من الوجوه الكالحة الحالية نجاح. وسنبدأ بنسيان حكيمهم وجعفريهم وعلاويهم وجلبيهم وصولاغهم وربيعيهم، عسكريهم ومدنيهم، صغيرهم وكبيرهم، وسنبدأ بالتعود على التصفيق لزعماء جدد غير منافقين وغير مزورين، لا لآنهم شرفاء وأنقياء بالسليقة، بل لأنهم يعلمون جيدا أن بقاءهم في السلطة محكوم بالاستقامة والنزاهة والوطنية الصادقة، وولأنهم يعلمون جيدا أيضا أنهم لن يتمكنوا من خداع جماهيرهم، إن أرادوا، كما كان أسلافهم يفعلون، بعد أن أفاقت من سباتها الطويل.

إبراهيم الزبيدي