الظواهر السلوكية الغريبة و المتصاعدة التي طرأت على أحوال شيعة العراق خلال العقد الأخير لا تستحق الرصد و المتابعة فقط بل تستدعي من أحرار الشيعة و مثقفيهم و أهل التنوير فيهم وهم الكثرة الغالبة على ما أعتقد الوقوف عند إرهاصاتها و تحليل كل وقائعها و بطريقة علمية تستهدف الوصول النهائي لنتائج إيجابية على صعيد تهذيب المذهب من السلوكيات الغريبة و الطارئة ودور المراجع الفكرية و السياسية التي تخطط لما يدور من خارج حدود الدائرة الوطنية العراقية و التي تستغل بشكل مفزع حالة التخلف المجتمعي في العراق و سيادة الجهل من أجل فرض رؤاها و منطلقاتها و بناء القواعد السياسية و التنظيمية لها في المجتمع العراقي.


لقد أشرت في مقالات سابقة للعديد من الظواهر و الطقوس التي تم إلباسها لباسا مقدسا لا علاقة له بالدين أو المذهب بقدر علاقته بأعراف و قيم عشائرية لا تضيف للمذهب شيئا بل على العكس تماما تسيء إليه و تساهم في فرض نمطية متخلفة بل و مفزعة في تخلفها، لقد إنتقدت ظاهرة اللطم الشامل التي تجتاح الشارع العراقي، كما إنتقدت مع آخرين من أحرار العراق شيعة أم سنة الطقوس البويهية و الصفوية الغريبة كل الغرابة عن المجتمع العربي المسلم كضرب السيوف على الرؤوس ( التطبير )!! وجري النسوة وراء مواكب التطبير لمسح الدم المتطاير من أجل تحقيق المراد!!،

وكذلك ضرب السلاسل على الظهور!! و بقية المشاهد الدموية المقززة المستوردة لديننا و مذهبنا و فكرنا من المدارس المسيحية المتطرفة أو الهندوسية أو بقية الفرق و الملل التي تلامست مع ثقافتنا العربية الإسلامية و ساهمت عصور الظلام و التخلف في إنجاح تسللها لمجتمعاتنا رغم أن تلك الثقافة لم تستطع الإنتشار في العالم العربي إلا من خلال حافته الشرقية وهو العراق مع بعض الإمتدادات بحكم الضرورة و السياسة في لبنان مثلا!، كما أشرت سابقا في مواضع و مواقف عدة لظاهرة المسيرات اللاطمة التي تعطل الحياة العملية لأيام و تجعل الدولة و أجهزتها الأمنية و العسكرية و الخدمية في حالة إنذار شامل رغم أن العراق الرهن يحتاج لكل ساعة عمل من أجل تعويض التخلف و ممارسة البناء و إعادة الحياة بدلا من الإغراق في طقوس دينية تكون حرة لمن يشاء و يرغب ووفقا للحرية الشخصية دون أن تكون الدولة بأسرها ملزمة لرعايتها وحيث كان من الأجدى للدولة أن ترصف الشوارع و تزيح القمامة وتمنع خطر الأمراض الوبائية و تصلح المجاري و تعيد الكهرباء و توفر الماء النقي، و ترعى الفقراء و الأرامل و المعوزين و المعوقين، وتوسع العملية التعليمية و تنثر الأموال على المؤسسات الإجتماعية و الصحية،وتقيم نظاما شاملا للضمان الصحي و الإجتماعي و تخفف من حالات الفساد و السرقة و الرشاوي و تعيد الثقة للمواطن ببلده و مجتمعه و تساهم في فرض التحرير الحقيقي للعراق و ليس لرميه في سلة نفايات التاريخ عبر الركض وراء الجماعات التائهة في الخرافة بدلا من توجيه المجتمع نحو ثقافة البناء و الحداثة و محاولة كنس قرون التخلف و الصراعات العدمية، حينما إنتقدت تلك الممارسات لم أكن أنطلق أبدا من خلفية طائفية أو دوافع عدائية أو لأهداف تحريضية تصب في مجرى الفتنة، فذلك أبعد ما يكون عن توجهاتي الفكرية و السياسية لأننا حينما قارعنا الفاشية البعثية أيام كان من يتهمنا اليوم أعضاء في حزب البعث و تنظيماته و جيشه الشعبي أو جيشه المقدسي أو فدائيو صدام و غيرها من التنظيمات الإرهابية الفاشية لم نكن نستهدف سوى مقاومة التخلف و التي تمثل الدكتاتورية البائده إحدى أهم واجهاته المزعجة، لذلك لا يعقل أن نستسلم اليوم لبعض الفاشيين الصغار من أهل الفكر العبثي و الموغل في أعماق الجهل و الخرافة و نتوقف عن رصدنا للظواهر السلبية التي نراها ممارسات ذات ضرر خطير على السلم الأهلي و الوحدة الوطنية وحتى على نقاء العقيدة، وأعتقد أن الإمام الحسين ( ع ) لم يكن من صنف الرجال الذين يستسلمون لليأس و الذين لا شأن لهم سوى باللطم على الصدور و شق الجيوب و التمرغ في التراب، لقد قالها سيد شباب أهل الجنة و أعلنها صرخة مدوية عبر التاريخ صاغها بدمه الطاهر : لا للظلم.. لا للباطل.. هيهات منا الذلة، كما أن الإمام قد خرج لنصرة الحق رغم وعورة طريقه كما حددها والده العظيم و إمام المتقين الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الذي لاقى من ألهوال و الفتن و الصعاب ما تنوء بحمله الجبال و كما أعلنها في أخريات كلماته حينما ضربه اللعين الشقي بن ملجم المرادي بصرخته الشهيرة : فزت و رب الكعبة...

وهي صرخة تعكس اليأس و الألم من حال الأمة التي دخلت في فتنة سوداء لم تخرج منها حتى اليوم للأسف، لقد خرج إمامنا الشهيد الحسين بن علي لطلب الإصلاح في أمة جده رسول الله ( ص) و هو يعلم علم اليقين بالغدر و الخيانة و تحولات المجتمع و هيمنة السلطة و رأس المال على النفوس، و كان يمتلك حصيلة أبيه العظيم و أخيه الإمام الحسن الذي تعرض لأبشع عملية غدر و خيانة بعد أن أصاب الترهل جسد الأمة و أضحت الشهوات و حب السلطة هي السمة السائدة، و كان بإستطاعة الإمام الحسن ( ع ) أن يدافع عن خلافته بشلالات متدفقة من الدماء و الحروب و لكنه كان يعلم تماما و يعي حجم المتغيرات الإجتماعية و النفسية فقرر الإنسحاب ليس جبنا و شراءا للدنيا بل حقنا للدماء فالتيار الجارف كان أكبر من أن يقاوم، و عندما دارت الأيام و تبدلت الظروف كانت الراية العلوية بكل ذكرياتها الجهادية ما تزال مرتفعة عامرة بالإيمان النبوي الصرف الهادف لنصرة المستضعفين و المحرومين، و كان الحسين كما كان غيره من الثوار من أبناء كبار الصحابة عناوين صريحة للخط الرسالي المحمدي في رفض الظلم و رفع راية الحق، و سار الإمام و ثلة صغيرة من أهل بيته نحو العراق لا لينتزع سلطة أو ليبحث عن غنيمة فهو أكبر و أجل من ذلك بكثير، و لكن ليطلقها صرخة في وجه الظلم و التوحش و الإرهاب و هو يعلم علم اليقين بإحتمالات الغدر التي عاناها والده العظيم و شقيقه الكبير، و تلك الروح الشفافة الطاهرة السامية العظيمة لا يمكن أن ترفع من قدرها موجات لطم بشرية هائمة بلا معنى، بل أن الشيء الذي يريح الإمام وهو في عليين أن يرى الأمة الإسلامية و قد بلغت من الرقي و التقدم و الحضارة و البناء مبلغا محترما بين الأمم، لقد عرض الإمام بنفسه على من يقاتلوه أن يذهب للجهاد في الثغور الإسلامية ضد الروم وقتذاك ليؤكد أن الموضوع ليس سلطة و تسلط بل هجرة و ثورة و بناء و تحصين للإسلام و أهله، و رغم أن خروج الإمام الحسين كان لمباديء سامية إلا أن الغدر الذي عانى من آثاره المميتة الوالد و الشقيق كان سيد الموقف كما هو الحال حتى اليوم و يقينا فإنني على ثقة بأنه لو عاد الإمام الحسين اليوم للحياة و جهر بدعوته للإصلاح و للعدالة لأغتالته من جديد الميليشيات الطائفية!، فهذه الجموع الهائلة التي يحركها الفراغ و الفشل السلطوي لم تحم أحدا، فقد قام النظام البعثي السابق بقتل العديد من العلماء و رجال الدين و على الملأ و لم تستطع تلك الجموع أن تفعل شيئا بالمرة بل وقفت تتفرج على مصارع المراجع كما حصل مع المرحوم السيد محمد باقر الصدر في الثامن من إبريل عام 1980! لقد كنت وبالصدفة البحتة في مدينة النجف في ذلك التاريخ ضمن سفرة جامعية طلابية من كلية الآداب جامعة البصرة وأتذكر وقتها أنه كان هنالك نوع من التوتر المحسوس بسبب المواجهة في الشوارع بين السلطات و الأحزاب الدينية إلا أن كل شيء قد مر بهدوء، كما عمد النظام السابق أيضا لقتل العشرات من آل الحكيم ظلما و عدوانا لمجرد كونهم أقارب للمرحوم السيد محمد باقر الحكيم و لم يتحرك الشارع و لم نشهد موكبا واحدا!! بل تكررت مأساة الحسين بشكل عصري و برز الغدر و النفاق في أعلى حالاته و صيغه، و كان النظام السابق سيستمر لأبد الآبدين و كان مقررا أن يتحول لنظام وراثي كما هو الحال في الشام و يأتي قصي صدام للسلطة بعد أبيه صدام حسين قبل أن يقطع الأمريكان هذه السلسلة الوراثية و يكنسون النظام من الواقع العراقي و من التاريخ؟ هل من الممكن أن يتمكن ( التوابون الجدد ) وهم جماعة إيران في المعارضة العراقية بما لم يتمكن منه ( التوابون ) القدماء من أهل الكوفة الذين ثاروا و ندموا على خذلانهم للحسين ثم سحقوا و تحولوا كما يقول العلامة الراحل محمد مهدي شمس الدين ( لدمعة في التاريخ )!!

و الدموع كما نعلم لا تصنع التاريخ بل إن الإرادة و الإيمان هي التي تحقق ذلك، كما أن الجموع و الطاقات الشعبية الهائلة التي تهدر في مسيرات اللطم لن تنصر الحسين أبدا، و ما ينصر الحسين وخطه الثوري الإنساني هو التنمية و رفعة الإنسان المسلم و ما يدور حاليا لا علاقة له لا بالإسلام و لا بالحضارة و لا بالحسين و فلسفة ثورته الإنسانية العظيمة و التي هي آخر إهتمامات قطعان التخلف العراقي المقيم.
و للموضوع آفاق و أبعاد أخرى ستتوالى...

داود البصري
[email protected]