نشرت لى ايلاف مقالا يوم 11 شباط/فبراير بعنوان (المليارات المضاعة) يبحث فى سوء التصرف فى إنفاق أموال الشعب العراقي فى استيراد بضائع ومواد مضرة أو لا فائدة منها. ولم أتطرق لأمور دينية أو مذهبية ولم أشتم ولم انتقد أحدا معينا،بل كان الموضوع اقتصاديا محضا وضمن اختصاصى،حيث عملت بالتجارة ما يقرب من ثلث قرن من الزمن.

وبدأت تعليقات القراء الكرام تترى حتى بلغ عددها حينما بدأت بكتابة هذا المقال أحد عشر تعليقا،وهو عدد متواضع جدا بالنسبة الى عشرات التعليقات التى نشرت حول مقتل الفنانة الراحلة سوزان التميمي. لا بأس بذلك، ولكن الذى هالنى هو أن تعليقا واحدا فقط (رقم 3) من قارىء تحت اسم: (من التعليم)،كان وحده يدور فى صلب المقال. أما باقى التعليقات فكانت مناوشات كلامية،بدأها المعلق الأول (بغدادي) واتهمنى بأنى (طائفي) واننى أكره المصري والسوري والفلسطيني والسوداني!!،ويلومنى لأننى لم أتحدث عن المخدرات والعبوات الناسفة اللاصقة الأيرانية،واننى أحب حزب الله ! وأكره حماس. وهكذا أخيرا عثرت على من يعرف عنى أكثر مما أعرف أنا عن نفسي!!.

من يعرفنى جيدا يعرف بأننى من أشد الناس كرها للطائفية،وكلما تكلمت حول هذا الموضوع فانى لا أذكر محاسن أي من المذهبين السني والشيعي،بل أذكر مساوىء الطرفين،لأن كلا منهما يكيل المدح لنفسه وأئمته الى حد التأليه،ويذم الآخرين الى حد التكفير. ويتطرف بعضهم أكثر فيهدر دم الآخرين ويعتبرذلك نوعا من الجهاد فى سبيل الله. ترى هل يدرك العراقيون أنهم قتلوا من أبناء بلدهم أكثر من عشرة أضعاف ما قتله الأمريكان منهم ؟ هل يدركون أنهم فجروا وهدموا من بيوت العبادة أكثر من عشرين ضعفا عما فجر وهدم الأمريكان ؟ هل يعرفون أنهم فجروا ونسفوا من البنى التحتية للبلد أكثر مما فعل الأمريكان ؟ البعض من السنة تعاونوا مع القاعدة وانتحاريين عرب قدموا من الحدود الغربية،والبعض من الشيعة تعاونوا مع الايرانيين الذين دخلوا من الحدود الشرقية،والعراقيون دفعوا الثمن الباهض من دماء وخراب.
وهذا الأمر ليس بجديد على العراقيين،فقد كان العراق ولقرون عديدة مسرحا للمعارك بين الروم والفرس التى بدأت سنة 92 قبل الميلاد واستمرت سبعة قرون،ثم بين الفرس والأتراك التى بدأت فى منتصف القرن الحادى عشر، وكان الغرباء هم المستفيدون دائما من ذلك الصراع. أما فى الوقت الحاضر فان المستفيدين هم رجال الدين المزيفين الذين يطمعون بالمال والجاه والسلطة،والسياسيين الذين أصابهم الهوس وجعلهم يحلمون ليلا ونهارا بكراسي الحكم وما يتبعه من امتيازات وأموال،وهم جميعا على ما أعتقد لا يؤمنون بدين قويم ولا مبدأ سليم. وهم الذين قال فيهم أحد القدماء : (دينكم دنانيركم،وقبلتكم نساؤكم). أما العراقيون فنسبة كبيرة منهم يتبعون كل هؤلاء على غيرهدى ولا بصيرة،ويقدمون الضحايا تلو الضحايا.

فى صباي سمعت قصة من المرحوم والدى تتلخص فى أن صديقين سني وشيعي كانا يتجادلان عمن هوالأفضل علي أم عمر (رضي الله عنهما). وطال بينهما الجدل ولم يتوصلا الى نتيجة،وقررا أن يسألا أول شخص يمر بهما،ويقبلان بحكمه حلا للنزاع. مر من أمامهما رجل كهل على أعتاب الشيخوخة فأسرعا اليه ووجها اليه ذلك السؤال الأزلي: أيهما أفضل الأثنين؟. نظر اليهما بتفحص وقال بان عليا هو السبب فى هذه المشاكل فقد كان عليه ان لا يخلق عمرا. وانفجر الصديقان ضاحكين فقد عرفا بأن الرجل من طائفة تعتقد بأن الامام علي (رض) هو الإله،ويتفق السنة والشيعة معا على كفرتلك الطائفة.


وسمعت فى حياتى حكايات كثيرة مثل هذه،ومنها أن سنيا إلتقى بشيعي،فذكر السني مكرمة من مكارم الشيخ الجليل عبد القادر الجيلي (الكيلاني) فقال : فى فجر أحد أيام رمضان بدأ الشيخ يتوضأ استعداد لصلاة الفجر،وفجأة سكت وتغير لون وجه وتناول قبقابه ورماه بشدة باتجاه الجنوب،وسأله أحد ألحاضرين عن سبب رميه القبقاب فأجابه بأن أحد أتباعه فى البنغال (بنغلادش) ما زال نائما وانه رمى القبقاب بالقرب من رأسه لايقاظه. وبطبيعة الحال لم يكن الشيخ يعرف أن هناك فرق ثلاث ساعات فى الوقت بين بغداد وبنغلادش،وان التابع كان فى ذلك الوقت فى محل عمله يسعى لكسب رزقه بعد أن أدى فريضة صلاة الفجر قبل ثلاث ساعات،هذا اذا احتسبنا ان القبقاب طار بسرعة الضوء،علما بأن الوقت الذى تستغرقه الطائرة لقطع المسافة بين بغداد وبنغلاديش لا تقل عن 8 ساعات. سكت الشيعي برهة وقال : هه،القبقاب لا شيء،لأن الامام علي بن أبى طالب (رض) بعد أن أكمل الوضوء فى مسجد فى مكة المكرمة،التفت يمنة ويسرة وهو يقول بأن تابعه فى مسجد الكوفة مازال نائما،وأمسك بصخرة مغروزة بالأرض وهي بحجم شاحنة (لوري)،فاقتلعها ورماها باتجاه الكوفة،فسقطت قرب تابعه النائم فى الكوفة فأيقظته،وان الصخرة ما زالت مغروسة حتى اليوم فى باحة مسجد الكوفة!


ان اختلافات الرأي طبيعية جدا عند البشر، ويذهب بعض العلماء الى أن اختلاف الرأي والذوق بين الناس هى من اهم المميزات التى تميز الانسان عن غيره من الحيوانات، وهى السبب فى بقائه وتقدمه واعماره للأرض وتسخيره الطبيعة لمنفعته. الأختلاف بالرأي لا يعنى أن نقاتل من يخالفونا ولا أن نفرض عليهم معتقداتنا، سواء أكان الخلاف دينيا أو قوميا أو طائفيا، بل أن حسن الخلق يفرض علينا احترام آراء الآخرين ومعتقداتهم.
لقد غاب عن وعي العراقيين انهم بسبب خلافاتهم هذه انما هم يقتلون ابناءهم وأعمامهم وأخوالهم وجيرانهم وشركاءهم فى هذا الوطن الذى فيه متسع لجميع أهله، وغناه يفيض عن حاجة الجميع. العراق الآن وكما كان دائما وأبدا، أهله مزيج من قوميات متعددة ويؤمنون بأديان متعددة ومذاهب متعددة، وبعد سقوط البعث استعرت الخلافات الطائفية والقومية، فان استمروا على الخلاف فيما بينهم واقتتلوا، فسينتهى العراق، وأن اتفقوا وتحابوا سيصبح العراق جنة لأهله وجحيما للغرباء المعتدين.

وقبل أن أنهى مقالى رأيت أن أضع حدا لتخمينات بعض المعلقين على مقالى السابق من القراء الأعزاء، فأقول لهم بأني مسلم عربي، ولد جدى الخامس فى مدينة الخالص شمال شرقي بغداد، وهاجر الى بغداد حيث تزوج وتوفي فيها. أما مذهبى فهو : شني، لا شيعي ولا سني !!.

عاطف العزي