لعل أبرز ظاهرة تفتق عنها العراق الجديد المحرر أمريكيا و بسواعد المارينز و بأحذيتهم الثقيلة فقط لا غير هي ظاهرة المواكب البشرية الزاحفة من أهل الماراثون الديني و الطائفي التي تلطم على الصدور و تشق الرؤوس و تنثر لحم الظهور في تلك الممارسات البويهية الصفوية البعيدة أساسا كل البعد عن توجهات و أفكار و أخلاق أهل بيت النبوة الكرام سلام الله عليهم أجمعين،.

فمن الواضح إن كلامنا هذا سوف لن يلاقي صدى طيب من قبل العديد من المعلقين بل سنوصم كالعادة بالكفر البواح الصريح أو بالناصبية أو سأرمى بالوهابية و السلفية أو سأتهم كما جرت عليه العادة في التفكير السياسي العراقي العقيم و الأجدب بالبعثية و العنصرية و الشوفينية و تلك إتهامات متهافتة تعودنا عليها منذ زمن بعيد و أدمن البعض إستعمال مفرداتها في غباء و سذاجة منقطعة النظير.

وهو غباء يؤشر بمأساوية على مدى تراجع الفكر و السياسة في العراق المعاصر و على خضوع طبقات و أجيال كبيرة من المتعلمين و المثقفين لسياسات و مواقف الأحزاب الطائفية التعبانة بأفكارها الرثة و البالية و المتصادمة مع المعلوم من الإسلام أو مع الحضارة و المدنية، و قد تابعنا كما تابع غيرنا حملات الحشد الإعلامية لأجهزة إعلام الأحزاب الطائفية المريضة التي تعتمد تسويق المبالغات الرقمية و تتبارى في محاولة إستعراض قوتها و قدرتها على تحريك الشارع العراقي نحو إستعراضات خرافية لا تعبر عن مصدر قوة بقدر ما تعبر عن إستعراضات خاوية جربتها العديد من القوى السياسية العراقية في تاريخ العراق المعاصر و لم تستطع أن تحقق أية نتائج معلومة في تقرير مصير العراق وتحديد مستقبله السياسي.

فقد كان الحزب الشيوعي العراقي أواخر الخمسينيات يمتلك من الحشد الجماهيري الكبير و الضخم مالم يتيسر لغيره من ألأحزاب و الجماعات في تاريخ العراق، و كان الشيوعيون يستغلون المناسبات الدينية و الإجتماعية أيضا لعرض قوتهم في الشارع العراقي و أنشاؤا الميليشيات العسكرية ( المقاومة الشعبية ) و التي حظيت بدعم رسمي و حكومي و رغم أن الحزب الشيوعي لم يقفز على السلطة أو يستولي عليها في عهد عبد الكريم قاسم و كان بإمكانه فعل ذلك لوشاء و لكنه كان يمتلك مراكز قوى مهمة في قمة السلطة تتيح له مراقبة الأمور و معرفة إتجاهات الريح، ورغم شعبية الشيوعيين الهائلة إلا أنهم تهاووا كعصف مأكول بعد أن نفذ حزب البعث العراقي إنقلابه العسكري عام 1963 رغم أن نفوذ البعث وقتذاك لم يكن يتعدى بعض الأطر الطلابية البسيطة.

و لكنه رغم ذلك رسم مجزرة دموية رهيبة و مريعة ضد الشيوعيين كلفتهم غاليا و أبادت قيادتهم بل أجهزت على وجودهم في الشارع العراقي بعد مجزرة 8 شباط / فبراير الرهيبة عام 1963 و المصائب التي تسبب بها ( الحرس القومي ) وهو ميليشيا إرهابية بعثية نفذت جريمة التطهير السياسي بفظاعة منقطعة النظير وهي نفسها التي أجهز عليها بعد تسعة شهور المرحوم الرئيس عبد السلام عارف الذي سلط الجيش العراقي على فلول البعث ليضعها في حجمها الحقيقي.

و منذ ذلك التاريخ تحديدا و من رحم الهزائم الشعبية و فشل الأحزاب السياسية ولدت الحركة السياسية الدينية العراقية التي ظلت معزولة ضمن إطاراتها الطائفية الضيقة كما هو حال الأحزاب السنية أو الشيعية، فالأولى كانت ضمن إطار تنظيم الإخوان المسلمين، و الثانية كانت و نشأت بتأثير الحوزات الدينية و المؤثرات الإيرانية و لغيرها من العوامل و لكن غالبية الشباب الشيعي في العراق كانت تحت تأثير الأحزاب اليسارية المطالبة بالعدالة الإجتماعية و المساواة في المواطنة و تكافؤ الفرص وإلغاء التمييز الطائفي و المناطقي.

بينما كان غالبية الشباب العراقي السني من أتباع التنظيمات القومية رغم أن تنظيم البعث العراقي كان يضم قيادات بعثية من أصول شيعية لعبت دورها الكبير في تأسيس الوجود البعثي كالمؤسس المرحوم فؤاد الركابي و القياديين حازم جواد و طالب شبيب و هاني الفكيكي و محمد سعيد الصحاف و ناظم كزار و عدنان الحمداني و عبد الحسن راهي فرعون وغيرهم الآلاف من القيادات الوسطى و أعضاء التنظيم المشهورين و المغمورين هذا غير أعضاء و منتسبي الأجهزة الأمنية و العسكرية و التي كان الولاء البعثي فيها هو الأساس و ليس الإنتماء الطائفي فقط، و طبعا لن نفغل ذكر الملايين السبعة التي كانت أعضاء فيما كان يسمى بجيش القدس أخريات أيام النظام السابق!

و يكفي القول إن آخر وجه قيادي بعثي بقي في ساحة المواجهة بعد سقوط نظام صدام في التاسع من نيسان / إبريل 2003 هو الوزير الشيعي محمد سعيد كاظم الصحاف!!، و كان للأمر دلالته التي لربما لم ينتبه لها الكثيرون!!

ثم دار الزمن دورته و تغيرت قواعد اللعبة الدولية في الشرق الأوسط و تقرر تبديل المشاهد بالكامل و تم إسقاط نظام صدام حسين الذي جاء به الغرب أواخر السبعينيات ليحقق أجندات إقليمية أضحت معروفة و مشخصة و برزت الظاهرة الطائفية في عهده ثم تقدم أقوى جيش في الكرة الأرضية لدك النظام و سحقه بالقوة العسكرية المفرطة ليس إنتصارا لحرية الشعب العراقي المفقودة و لا لعقاب النظام السابق على جرائمه في الكويت أو الإقليم بل لحسابات أخرى و مختلفة لا علاقة لها أصلا بكل الأسباب المعلنة، و لكن من خلال حلقات الصراع العراقي الداخلي بين نظام صدام وقوى المعارضة العراقية كانت ألأغلبية العراقية صامتة بل و تراقب الصراع بحيادية في أغلب الأحيان و تحمل الشعب العراقي سنوات الحصار الطويلة و مراحله المزعجة.

و كان عجز المعارضة العراقية المدعومة من النظام الإيراني خصوصا قد وصل لحالة فظيعة من الإستسلام وعدم القدرة فكل تلك المعارضة بكل هياكلها القيادية و العسكرية لم تستطع تحريك شعرة واحدة من جسد النظام البائد، الأمر الذي دعا الولايات المتحدة و لأول مرة في تاريخ الشرق الأوسط للتدخل العسكري المباشر و الزحف المباشر لإسقاط النظام بالقوة المسلحة و جرت عملية الصدمة و الرعب التي إستمرت حوالي عشرين يوما قبل أن يتحلل النظام و يتهاوى بعد تحطيم قواعده العسكرية و الأمنية وفي ذلك لم نر أبدا أي أثر للجماهير العراقية و لرجال الأحزاب أو لأهل مواكب اللطم الشامل الحالية في إسقاط النظام بل أن شرف ذلك العمل و كل الفخر يتحمله الجندي و الضاب الأمريكي فقط و المؤسسة العسكرية الأمريكية التي أنجزت المطلوب فيما كان رد الفعل الأول من رعاع العراق هو قيام ( الفرهود ) و الهجوم على مؤسسات الدولة لسرقتها و بروز جماعات الشطار و العيارين الجدد و نشوء طبقة ( الحواسم ) من اللصوص و الأرزقية و جماعات ( السرسرية و الهتلية ) الذين تحولوا لأبطال بعد أن كانوا يعيشون في دور الفئران لمرحلة زمنية طويلة!!

واليوم تتحدث الأحزاب الطائفية عن مسيرات اللطم و الحشد المليونية و تلك الطاقات البشرية الجبارة التي تستهلك طاقتها في اللا جدوى و الإستعراضات الفارغة و الطقوس الخرافية فيما العراق يعيش بأسره في أسوأ و أردأ مرحلة في تاريخه فحجم الوساخة و إنعدام الخدمات في مدن العراق قد جاوزت الخرافة و مع ذلك لم تستجب حكومة الطوائف سوىلمتابعة أمور المواكب و تخصيص السيارات و الحمايات و حتى البنزين و تعطيل الخدمات و إيقاف عجلة التنمية و التعليم و بالشكل الذي جعل من العراق بأسره مسخرة كبرى!!... إتساءل بوضوح و شفافية أين كانت ملايين اللطامة من الرجال عن مهمة إسقاط نظام صدام حسين ؟

و لماذا تواروا و أختفوا ليترك شرف التحرير ليناله الجندي الأمريكي بينما يكتفون بأكل الهريسة و اللطم حتى ظهور المهدي..؟ إنه سؤال حائر في زمن التيه و النفاق العراقي الكبير؟

داود البصري

[email protected]