كوني عربي بالوراثة، لم يجعلنى أشعر فى يوم من الأيام بأننى أحسن وأفضل من غيري ممن ينتمون الى قوميات أخرى. لا أنا ولا غيرى اخترنا قوميتنا بل ورثناها من الآباء فقط. وما زال معظم البشر ينتسب الى الأب فقط دون الأم، ومع ذلك فنحن فى العراق نقول : ثلثي الولد على الخال، أي ان ثلثي صفات الأولاد تطابق صفات أمهاتهم. وهذا يعنى لو تزوج عربي من كردية فأولاده سينتمون الى الأكراد أكثر مما ينتمون الى العرب، ومع ذلك سيسمونهم عربا، والعكس بالعكس.

سوف لا أحاول بحث الموضوع بطريقة علمية بحتة واستشهد بأسماء طنانة رنانة لعلماء وأساتذة سواء كانوا غربيون أم شرقيون، وانما سأكتب عن أمور واقعية حصلت وما زالت تحصل يوميا بين الأفراد فى كل الشعوب على اختلاف قومياتهم وأجناسهم.

لو نظرنا الى العرب الساكنين فى جنوب العراق (فى البصرة مثلا) والذين هم من آباء وأمهات وأجداد عرب، وقارنا بينهم وبين العرب الساكنين فى شمال العراق (فى الموصل مثلا) والذين هم أيضا من أباء وأمهات وأجداد عرب، لوجدنا أن بشرة الغالبية من البصريين سمراء وقد تقترب من السواد، وعيونهم على الأغلب سوداء، وأجسامهم نحيفة وتميل الى القصر، بينما بشرة الموصليين تكاد تكون ناصعة البياض، ونسبة العيون الملونة عندهم أعلى بكثير من نسبة العيون السوداء فى جنوب العراق، وأجسامهم أضخم.
ليس لاختلاف الجو بين المدينتين علاقة كبيرة بهذا الاختلاف كما قد يتوهم البعض، ولكن البصرة كميناء مشهور منذ القدم فقد كانت معظم السفن التى تصلها تأتى من الهند حيث كانت التجارة مزدهرة بين البصرة وبومبى (غير اسمها حديثا الى ممباي)، فكان من الطبيعي أن يقرر عدد كبير من الهنود الاستيطان فى البصرة، وبمرور الزمن تعلموا العربية واللهجة المحلية ولم يعد أحد يميز بينهم وبين السكان الأصليين، وتزوج الهندي من عربية والعربي من هندية (كما يجرى الآن فى معظم دول الخليج)، وبمرورالزمن صار الهنود عربا. والعامل الثانى هو تجارة الرقيق الذين كانت غالبيتهم من الزنوج، وجلبهم النخاسون الى البصرة وباعوهم فيها، وأيضا بمرور الزمن وبسبب الاختلاط والزيجات، فقد أصبح الزنوج عربا أيضا. وهكذا اختلط السود و الهنود مع اهل البصرة العرب، وبدأت تظهر أجيال تختلف ملامحهم وألوان جلودهم عن البصريين الأصليين.

وما حصل فى البصرة حصل فى الموصل أيضا بسبب موقع الموصل الجغرافي فان القوافل التجارية كانت تأتيهم من أوروبا، وتجلب لهم الرقيق من الجنس القوقازي (القفقاسي) الأبيض اضافة الى غزوات الرومان والأتراك واتخاذ البعض منهم مدينة الموصل وطنا جديدا لهم واختلطوا بأهلها.

أما بلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن)، فقد كانت قبل الاسلام محتلة من قبل الرومان البيزنطيين الأوروبيين، وبعد دخول الاسلام جلب النخاسون اليها الرقيق من ذكور واناث من اوروبا وبلاد فارس والأناضول، تلى ذلك الحروب الصليبية حيث احتل الصليبيون مساحات شاسعة من الشام ومكثوا فيها أكثر من قرنين، ونتج عن كل ذلك أن تغلب بياض البشرة الأوروبي على لون البشرة العربية السمراء فى بلاد الشام وأصبح هو اللون الأكثر شيوعا فى تلك البلدان.

وحصل نفس الشيء عند اجتياح المغول الوحشي للشرق الأوسط واستعبدوا معظم أقطاره أكثر من قرنين من الزمن، وفسقوا بالنساء والصبيان، ولم يسلم منهم الا من لجأوا الى البوادي والى الكهوف والمستنقعات.

حدثنى أحد أصدقائي وهو طبيب أطفال مشهور فى بغداد، بأن نسبة كبيرة من الأطفال الذين يجلبون الى عيادته يجد عندهم فى أسفل الظهر بقعة زرقاء مدورة قطرها حوالى سنتمترين، وهي علامة يتميز بها الجنس المغولي عن غيره من الأجناس. ولم تقتصر منكرات المغول على الشرق الأوسط بل امتدت الى أواسط اوروبا. ومن يزور هنغاريا اليوم يجد السحنة المغولية على الكثير من سكانها، حيث أن جيش المغول عندما بدأوا الانسحاب من اوروبا تخلف عنهم الكثيرون من جندهم وفضلوا العيش هناك حيث مارس معظمهم التجارة.

أما شبه الجزيرة العربية فقد حصل فيها مثلما حصل فى جنوب العراق، حيث تغلغل بين سكانها الزنوج والهنود. ولا ننسى الفارس (العربي) الأسود عنترة بن شداد!.

وربما لا يعرف الكثيرون عن الخليفة العباسي الأسود إبراهيم بن المهدي بن المنصور، وأخيه هارون الرشيد؛ كان أسود اللون لأن أمه كانت جارية سوداء، واسمها (شكله)، وكان مع سواده عظيم الجثة. بايعه أهل بغداد بالخلافة والمأمون يومئذ بخراسان، وأقام خليفة بها مدة سنتين. وقال الخطيب : بويع إبراهيم بالخلافة زمن المأمون فحارب الحسن ابن سهل فهزمه، ثم أقبل لحربه حميد الطوسي فهزم جيش إبراهيم واختفى إبراهيم زمانا إلى أن ظفر به المأمون ثم عفا عنه.

وبالنسبة للدول العربية فى شمال أفريقيا فالوضع يختلف، حيث غزاهم الأوروبيون أحيانا، وغزا العرب أسبانيا والبرتغال ومكثوا فيها أكثر من سبعة قرون ثم طردهم الأسبان الى المغرب. وكانت المحصلة هى اختلاف لون بشرة المغربي البيضاء فى طنجة عن لون بشرة المغربي السمراء فى أغادير والمدن والقرى الجنوبية، والاختلاف بين شعر رؤوس المغاربة فى الشمال عنه فى الجنوب حيث تزيد نسبة الشعر المجعد عما هى عليه فى الشمال. والشيء نفسه ينطبق على باقى الدول العربية فى شمال أفريقيا، مثل مصر حيث اللون الأبيض والعيون الملونة فى الاسكندرية، واللون الأسمر والشعر المجعد كلما توغلنا جنوبا الى اسوان وقرى الحدود مع السودان.

بعد تمكن الجيوش الاسلامية من السيطرة على العراق وبلاد فارس والشام وتركية وشمال أفريقية وأسبانيا، بعث قادة تلك الجيوش بالغنائم الى الحجاز، ولكن الخليفة عمر بن الخطاب (رض) لم يسمح لغير المسلمين من العبيد والجواري بالعيش فى الحجاز واستثنى من ذلك الفتيان والفتيات ممن لم يبلغوا سن الحلم من الأيتام الذين فقدوا آباءهم بالقتل او بالأسر أو بالأسترقاق. وبعد سنين من الاختلاط بالمسلمين هناك واندماجهم بالمجتمع وحصول التزاوج بينهم وبين العرب المسلمين، بدأ يظهر بين العرب اختلافا واضحا فى لون البشرة. وقد ولع القادة العرب (السياسيون والروحانيون والعسكريون) باقتناء الجواري الحسناوات وخاصة الشقراوات بالعشرات والمئات، وكانت الحصة الكبرى للخلفاء العباسيين حيث اقتنى الواحد منهم آلاف الجواري وأنجبوا منهن البنين والبنات، وبعد أن شب هؤلاء تزوج البعض منهم أيضا من جواري اوروبيات، وهكذا تكررت الزيجات المختلطة. ولا يملك الانسان الا أن يتساءل هل أن الولد الرقم عشرين فى هذه السلسلة مثلا،هو عربي حقا؟ وما هى نسبةالدم العربي فيه بعد عشرين زواج أو أكثر من جوارى أو حرائر غير عربيات؟


وإذا أردنا أن نرجع إلى تاريخ القومية القديم، فسنجد أكثر الناس غلواً في القومية والعنصرية هم اليهود، وقد تكون لهم الأسبقية فى ايجاد التعصب العرقي الذميم المغالى فيه كثيرا ثم تبعهم آخرون. فإن الأمم الأخرى مهما كان تعصبها لقوميتها إلا أنها لم تبلغ الحد الذى وصل اليه اليهود الصهاينة.

ومثلما استخدم الدين لأغراض سياسية فقد استخدمت القومية للأغراض السياسية أيضا. ففى القرن الماضي، زعم أدولف هتلر الزعيم الألماني النازي بأن الجنس الآري هو الجنس المتفوق و(ألمانيا فوق الجميع)، فتأسست مكاتب فى طول البلاد وعرضها وسارع اليها الألمان للبحث واثبات نسبهم الألماني الآري، وكانت هذه النزعة القومية واحدة من أسباب قيام الحرب العالمية الثانية. وفى شرقنا العربي، حاول جمال عبد الناصر تزعم العرب وقلد هتلر فنادى بالقومية العربية والوحدة العربية (من المحيط الهادر الى الخليج الثائر)، وكأنه لا يدرك ان البصري مثلا لا يفهم كلام المغربي، ويختلفان فى التقاليد والأمور المعاشية اليومية. وفشل ناصر فيما أراد بعد أن زج العرب فى حروب لا قبل لهم بها فخسروها. وتبعه البعثيون فى العراق وسوريا الذين كانوا يحلمون بامبراطورية عربية يحكمها حزب البعث، وفشلوا فى العراق بعد أن سببوا له نكبات لا مثيل لها وقد تكون الأفضع فى كل تأريخه. وغالبا ما كنا نسمع الأغنية المفضلة لدى البعثيين التي تقول :

عربي أنت أرضا وسما *** فاملأ الكون لهيبا ودما

ولست أدرى من سيبقى على الأرض بعد أن تمتلىء باللهيب والدماء كما يرغب البعثيون.


عاطف العزي