من يتذكر تلك التصريحات النارية للرؤوس الحامية للنظام العراقي السابق والعنتريات الفارغة التي كانوا يطلقونها، من حين لآخر، ولاسيما بعد أن كانوا يفرغوا من استعراضات صواريخ الحسين المجوقلة التي لا ندري ما حل بها، وأين ذهبت بعد ذلك؟ وأما اللديث عن الترسانة النووية العراقية التي لم تكن سوى مجرد قبض ريح، وتبين أنها لم تكن إلا كذباً وافتراء لإرضاء غرور ونرجسية القائد الضرورة. أما الكلام الذي أشيع وقتها عن استعداد العراق لإبادة نصف إسرائيل بالأسلحة الكيماوية فتبين أنه لم يحصد في النهاية، ولم يحرق سوى رؤوس النظام وصبيانه. والطامة الكبرى كانت في تلك النزعات الإتباعية والأطماع التوسعية التي اعتبرت دولة الكويت المحافظة التاسعة عشرة في العراق.

والتصريحات تلك، تنم عن جهل فاضح بواقع الجغرافية السياسية في الإقليم وأهمية الحفاظ عليها من قبل الدول الكبرى التي تدخلها في حيز المقدس للإرث الاستعماري الغالي الذي يجب الحفاظ عليه مهما غلت الأثمان، وكبرت التضحيات، وأن أي مساس بتلك الحدود ومحاولة تغييرها فهو بمثابة الانتحار السياسي. فالخريطة السياسية السايكس-بيكوية بواقعها الحالي، هي quot;خريطة الطريقquot; الوحيدة المعتمدة استراتيجياً، لإدارة الإقليم وهي التي قدمت الخدمات الجليلة لإسرائيل ومن وراءها، وهي التي أمنت للقوى الكبرى الهيمنة بسهولة على المنطقة، وتوجيه سياساتها بما يضمن ضعف هذه الدول فقط، ولا يعمل على العبث أو التغيير بأي قدر من ضعفها وهشاشتها. فتلك الخطوط الحمراء لا ينبغي لأحد الاقتراب منها، حتى لو كان حليفاً وثيقاً للغرب، كما كان عليه حال الرئيس السابق صدام حسين. ومن هنا يظهر العمى الاستراتيجي، والأمية السياسية والإستراتيجية والجهل المطبق للقوميين العرب الذين يعتقدون أن طريق وحدتهم مفروش بالورود، وأن حلم الدولة القومية الواحدة سيمر هكذا مرور الكرام من أمام القوى العظمى وستوافق عليه وتتساهل معه وتدعمه. ( هل نرى مثلاً حمقى في الغرب اليوم، ولأي سبب، يريدون إحياء الإمبراطورية الرومانية مثلاً التي صارت في حكم التاريخ وماتت، وأفلت مع انتهاء وأفول شرطها التاريخي؟). فأولئك الحالمون المساكين بهمروجة الوحدة العربية، لا زالوا لا يعلمون بإن سايكس بيكو هي إنجيل سياسي للمنطقة حتى إشعار آخر، وحتى يتسنى تبلور مشروع وتصور جديد بديل وآخر، شريطة أن يساهم، فقط، في مزيد من إضعاف دول المنطقة، وتفكيكها، وضعفها وليس تقويتها على الإطلاق، أو بعث رسالتها الخالدة من مراقدها السلفية الميتة.

وقد كان quot;تصورquot; شرق أوسط جديد أحد البدائل المطروحة للسايكس- بيكوية التي يعتقد أنها استهلكت واستنفذت أسبابها، وحققت أهدافها، ولا بد من الانتقال إلى مرحلة جديد أكثر قدرة وفعالية في إضعاف قوى المنطقة وتفكيك المفكك وتفتيت المفتت. وربما يكون المرحلة التالية للسايكس بيكوية ونحن لا ندري ولا نعلم ما ذا يـُخبئ لنا، ويا quot;غافل إلك اللهquot;. لا شك بأن مشروع الشرق أوسطية قد تعثر، على ما يبدو، وقد يتم تأجيله، مرحلياً، في الوقت الراهن، على الأقل، ولكن هذا لا يعني بحال أنه قد تم إلغاؤه. وقد يقتضي بعض الترتيبات الجيوسيساية التي ترسمها القوى العظمى. ومن المفيد القول، هنا، بأن تصريحات quot;غلاةquot; النظام الإيراني الأخيرة المغرورين بغطرسة القوة تصب كثيراً في طواحينها. فمن المحتمل أن تؤخذ تلك التصريحات بالجدية quot;الزائفةquot; المعهودة لغلاة اليمين الغربي، وتلتقي مع التصريحات المشابهة والمحذرة من خطر إيراني على الضفة الإسرائيلية من الإقليم، ولاسيما بعد الصعود الصاروخي لليمين والفاشية الصهيونية في الانتخابات الأخيرة، لتشكلان معاً ذريعة قوية تكون بداية لسلسلة من التدخلات اللامتناهية وعلى غرار الأنموذج العراقي السابق ، وتكتسب نفس قوة الحق والمشروعية التي منحها إياها الرئيس الراحل صدام حسين، وكانت المنطلق للمحنة العراقية التي ما تزال في حكم المجهول حتى الآن، طالما أنه ليس بمقدور أحد أن يتكهن بسيناريوهات الموت والكوبيس البشعة القادمة، فيما لو انسحبت فعلاً القوات الأمريكية من العراق.

ولكن لنعترف أن الحالة الإيرانية لا تنطبق كلياً على الحالة العراقية، وهناك كبير فرق بين الحالتين. فالحقائق والمعطيات الموجودة على الأرض، والمعروفة، حتى الآن، تختلف كثيراً، بين الجانبين، وطبيعة وتركيبة النظام الإيراني تختلفان عقائدياً، وهيكلياً وبنيوياً عن النظام االعراقي. غير أن بعض السياسات اللاواعية لحقائق الجغرافيا السياسية، والتصريحات اللامسؤولة التي تتشابه أحياناً، هي، نفسها، ومهما بلغ الاختلاف قد تقود إلى نفس الطريق المهلك الذي أودى النظام العراقي السابق في ذاك الدرك الأسود السحيق.

بيد أن التصريحات الإيرانية الواقعية الإيجابية الأخيرة، والتحركات السياسية والدبلوماسية التي رافقتها قد تعني اعترافاً بخطورة تلك التصريحات وأثرها على أمن الإقليم، وتعني فيما تعنيه، تراجعاً رسمياً عنها. وستساهم، ولا شك، في رأب الصدع، وفي نزع فتيل المواجهة، وتخفيف حدة المواقف والاحتقانات، لتسحب أية ذريعة من كل من يحاول أن يدس أنفه في شؤون المنطقة، وستبقي، تالياً، الأساطيل وناقلات الطائرات بعيدة قليلاً عن شواطئ الإقليم، ربما بانتظار quot;تصريح جديدquot;.

نضال نعيسة
[email protected]