في أقل من ثلاثة اسابيع تمكن البيت الابيض الامريكي من زج الاعلام العربي في امتحان لم تكن النتيجة التي اسفر عنها، الا اضافة جديدة في كفة ضعف هذا الاعلام، وعشوائيته وزيادة منسوب ما عرف عنه من تخبط، وتأكيد خروج القارئ العربي من دائرة اهتماماته، او على الاقل الاعتداء على حقه الطبيعي في التلقي المنضبط لقواعد الإخبار الموضوعي والتحليل الواعي، والتفسير اللايديولوجي.

فبعد اللحظة التي كان قد اعلن فيها البيت الابيض، يوم 8 ماي الجاري، عزم الرئيس باراك اوباما زيارة القاهرة، برزت الى الساحة الاعلامية العربية مئات الاقلام التي اخذت على عاتقها تفسير وتحليل الاسباب والدواعي التي دفعت واشطن لاختيار القاهرة لتكون العاصمة العربية الاولى التي يزورها الرئيس الامريكي الجديد.

وعلى الرغم من تنويع كتبة مقالات الرأي بختلف اصنافها لتلك الاسباب الا انها كانت تلتقي جميعا في التأكيد على ان دور مصر القيادي للنظام العربي وثقلها الاقليمي، او ان اعادة الاعتراف الامريكي بهذا الدور، خاصة وان السكرتير الصحفي للبيت الأبيض، روبرت غيبس برر دواعي الاختيار بان quot;مصر تُعد بلداً تمثل، في العديد من الحالات، قلب العالم العربيquot;، هي السبب الرئيسي وراء اختيار واشنطن للقاهرة كي تكون العاصمة العربية الاولى التي يصلها الرئيس الامريكي.

ولئن اسهب العديد من الاعلاميين المصريين وبعض العرب في تأكيد هذا الانطباع، فان من عرف عن مواقفهم من الاعلاميين الاخرين مناهضة السياسة المصرية، استسلموا للفكرة، وان كانوا قد اختاروا مناهضتها، وخاصة عبر التركيز على خطأ الاختيار، دون الولوج لاسبابه، كما ذهبت الى ذلك بعض الشخصيات المصرية مثل مدير مركز ابن خلدون سعد الدين إبراهيم، الذي نقلت عنه الواشنطن بوست قوله، أن اختيار أوباما جاء خاطئا، وكان من الأولى به أن يتوجه إلى إندونيسيا أو تركيا، واصفاً النظام المصرى بـquot;الدكتاتورىquot;.

وحتى فهمي هويدي فقد التف على الموضوع وخلط الاوراق من خلال طرحه لسؤال واضح، باجابة ملتبسة عما ما اذا كان اختيار مصر هو للمكان او للمكانة. فبعد ان طال سرده للحجج التي تبين تراجع الدور والمكانة المصرية، قام بانعطافة مفاجئة حيث استخلص من كتاب عبقرية المكان quot; في شخصية مصر quot; لجمال حمدان ان تجربة القرن الأخير على الأقل اثبتت أن الاستعمار الغربي أو الإمبريالية العالمية لا مانع لديها بالضرورة من الاعتراف بزعامة مصر الإقليمية أو العربية في حد ذاتها، إذا ما هي اعترفت بالتبعية لها أو بالتحالف معها. فما دامت زعامة مصر الإقليمية تضمن لها أن تنقاد المنطقة برمتها خلفها والتبعية لها، فلا بأس في الاعتراف لها بتلك الزعامة بل وتثبيتها فيها.

اما بعد ان عاد البيت الابيض يوم امس الاول ليعلن وبلا مقدمات او تسريبات من هنا اوهناك عن تعديل في برنامج الزيارة الرئاسية للمنطقة، مفاده ان الرياض ستكون العاصمة العربية الاولى التي سيزورها الرئيس اوباما بدلا من القاهرة، فانه بالاضافة لاطاحته بصدقية كافة التحليلات السابقة، فانه فاجأ الاعلام العربي بضبطه بلا بنطال.

فالحرج والضبابية وانعدام الرؤية لا زالت تلف الموقف الاعلامي العربي، وتحول دون معرفة الاسباب الحقيقة التي دفعت لهذا التغيير الذي ولا شك انه ينطوي على اسباب جوهرية حيث لا يمكن اعتباره قرارا اعتباطيا او مزاجيا، على الاقل بالنسبة لدولة مثل الولايات المتحدة الامريكية.

ولئن وصف البعض القرار الامريكي بتقديم السعودية على مصر بالقرار المفاجئ، فالحقيقة هي ان القرار الامريكي السابق بتقديم زيارة مصر على زيارة السعودية هو القرار المفاجئ، والمتابع للسياسة الامريكية يدرك الامر بسهولة، كما ان المتابع لطروحات اوباما نفسه يدرك ايضا الامر بسهولة اكثر، كذلك فان المتابع للادائين الاقليميين لكل من السعودية ومصر، واداء امريكا نحو كل منهما يدرك كذلك الامر بيسر.

فقبل نحو عام من الان وعندما كان لا يزال مرشحا ديمقراطيا للرئاسة، وفي معرض رده عن سؤال لمراسل قناة quot;نيويوركquot; الأولى عما يقصده بأن إسرائيل هي أهم حليف في الشرق الأوسط، وعمّا إذا كان هناك حلفاء من مستواها، قالت صحيفة quot;الأخبارquot; اللبنانية: ردّ أوباما بأنّ للولايات المتحدة حلفاء كثيرين في المنطقة، وبأنّ السعودية حليف رئيسي فيها، إلى حدّ أنه أشار إلى أنّ:quot; لدينا تحالفًا مع السعودية لا يقلّ أهميةً عن تحالفنا مع إسرائيل، ويجب بسط حمايتنا النووية لهاquot;.

وحتى عقب اعلان القاهرة كمحطة اولى للزيارة وفيما كان بعض الاعلام العربي يسدد فواتير قديمة لبعض الجهات لقاء مواقفها من بعض السياسات المصرية، كان الاعلام الامريكي يناقش ويبحث في اسباب استبعاد اوباما للرياض من برنامج زيارته، فصحيفة التايم وفي تقرير خاص، إستعرضت فيه الدول التي كانت مُرشحّة لإستضافة الخِطاب الذي وعد اوباما بالقاءه مخاطبا المسلميين خلال حملته الانتخابية وناقشت بإستفاضة أسباب عدم إختيار دول مثل أندونيسيا، المغرب، الأردن، تركي، وجاء فيه ان استبعاد السعودية ناجم عن خوف أن يُقال أن أوباما في جيب السعودية. اما صحيفة النيويورك تايمز، فقالت أن هناك هاجساً أمنياً حال دون إلقاء الخِطاب في الرياض.

وبتجاوز كل ما ذكر، من يستطيع ان يفسر كيف يمكن للولايات المتحدة ان تستقبل العاهل الاردني كأول زعيم عربي يزور البيت الابيض ومخاطبا اياها باسم جميع العرب، بعد تسلم اوباما الرئاسة، وتكون القاهرة هي العاصمة الاولى عربيا التي يزورها ومنها يخاطب العالمين العربي والاسلامي، فيما واحدة من دول قيادة النظام العربي تكتفي بموقع المخاطب، كأي دولة عربية اخرى في النظام؟.

هذا من حيث الشكل، اما جوهريا فقد باتت الولايات المتحدة، اكثر ادراكا ان للسعودية خطوط، ان في النظام الاقليمي الخليجي، او النظام العربي، لا تقبل المساومة بشأنها، حيث ما زال موقفها من تطورات الوضع العراقي، وحكومة المالكي عصيا على مختلف مناوراتها، كما هو موقفها من اوضاع لبنان، فضلا عن ان رؤيتها للدور الايراني، بات يرشحها للعب الدور العراقي السابق في هذا الاطار.

وفي المقابل لا بد من الاشارة الى المصلحة الامريكية، في ابقاء جذوة التنافس والشك مشتعلة بين دول الدور القيادي في النظام الاقليمي العربي، وتعميق الشعور المصري بالحرج، لدفعه نحو مواقف اكثر تشنج، كما حصل منذ الحرب الاسرائيلية على غزة، وازداد اكثر مع كل بزوغ بوادر استعداد امريكي لعقد صفقة ما مع ايران، هذا زيادة على الغمز الامريكي الدائم من قناة النظام المصري لجهة الديمقراطية وحقوق الانسان.

لقد اعاد اوباما بقراره هذا، ومن وجهة نظر واقع قائم، بعيدا عن الايديولوجيا والانحياز، اصلاح، خلل ولكن ليس فقط على حساب اعلام عربي، ما زال يمارس دور حارس البوابة، ولكن على حساب اعلام عربي ضبط عاريا.

هاني الروسان