الأمور في إيران كانت تسير الأمور على أساس التصنيف التقليدي للثورة الإسلامية في ايران، ولكن هذه المرة كانت بطريقة مختلفة لم تشهدها إيران منذ ثورتها عام (1979)، إذ أصرت الحكومة على تنصيب احمدي نجاد رئيسا لولاية ثانية، ولو بطرق التزوير والتزييف، بل حتى وان تم نحر (الديمقراطية الناقصة) في نظام الحكم. وعلى ما يبدو فان الإصرار هذا ناجم عن تركيز (الملالي) المتنامي على البرنامج النووي، وربما لمواصلة المواجهة المحتدمة مع الغرب.

لا يخفى على المتتبع أن النظام الإسلامي الإيراني ومنذ تأسيسه اعتمد نظام الانتخابات (الديموقراطي) في ضوء التنافس المشروط بولاية الفقيه، قبل أن تشهد سنوات أواسط تسعينيات القرن الماضي صعود تيار الإصلاح بزعامة الرئيس السابق محمد خاتمي، حيث شهدت الدولة الإسلامية انفتاحا غير مسبوق، أثار حفيظة (الولي الفقيه) علي خامنئي وتياره المحافظ.

بعد ذلك اعتمد خامنئي نموذج قراءة مختلفة، جرّت السياسات الإسلامية الى مزيد من التشدد، حتى وصل بها المطاف الى الضغط على التيار الإصلاحي وإغلاق الصحف الناطقة باسمه إبان حكم خاتمي، إضافة الى اعتقال العديد من نشطاء ومفكرين داعمين للإصلاح. رافق كل ذلك حملات اعتقال في جامعة طهران التي شهدت هي الأخرى أصواتا مناصرة لخاتمي، في محاولة لفك الاختناقات المفروضة عليهم من قبل مليشيا (البسيج)، وبعد صراع طويل ومرير تمكن خاتمي من تحقيق جزء يسير مما طمح إليه أنصاره، أبرزها تجميد جهاز (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وتقليص صلاحيات (البسيج) في الجامعات الإيرانية عموما. قابل ذلك تشكيل جهاز جديد تحت مسمى (مكافحة المفاسد) ترتبط قيادته مباشرة بالحرس الثوري، وزج حراس أمنيين عند أبواب الحرم الجامعي بطهران، للحد من الانفتاح المتنامي في الجمهورية الإسلامية آنذاك. ولم يكن الشارع الإيراني راض بهذا التغيير، الأمر الذي دعاهم الى العزوف عن المشاركة في الانتخابات الرئاسية الماضية (2005)، مصحوبا بعجز الإصلاحيين عن تحقيق الطموح.

ومع وصول أحمدي نجاد الى سدة الحكم انقلبت الصورة، اثر تسليح مقاييس جديدة لوصف الإصلاح والاعتدال، ومن باب الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية انطلق نجاد بتأييد لم يستمر سوى عاما وبضعة أشهر، أي قبل تدهور الاقتصاد الإيراني بشكل مفاجيء نتيجة التركيز على البرنامج النووي.

وطيلة السنوات الأربع الماضية تمكن نجاد من تشديد قبضته وتقليص دور الإصلاحيين في المجتمع، ليخلق هوة عميقة بين الحكومة والشعب.

نجاد أمر بتطبيق المباديء الإسلامية في الشارع الإيراني الميال للغرب، وأعاد الى البلاد لجنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما مارس اقصاءات للخصوم الايديلوجيين أثارت ذعر الإصلاحيين. والأخطر من هذا وذاك فإن فريق الحكومة الحالية في طهران، رفعوا سقف التشدد إلى درجة غير متوقعة. وباشرت قبل أشهر باتخاذ إجراءات عدة لتثبيت هذا التشدد في جميع التشكيلات الحكومية.

وبينما انشغل الإصلاحيون بترميم صفوفهم والاتفاق على مرشح موحد تقف خلفه الجماهير المتعطشة، رتب المحافظون كل ما يمكن ترتيبه من سيطرة على اللجان الانتخابية، وزج عملائهم في الزوايا والأركان الأهم، لإعلان نصر كاسح لا يمكن للمجتمع الدولي الاعتراض عليه.

فقد دعا المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي الشعب الإيراني ليلة الانتخابات إلى تقبل النتيجة مهما كانت. ووجه شعبه إلى التوجه إلى صناديق الاقتراع في الساعات الأولى من الصباح. وبالطبع فان خامنئي حين يدعو الشعب الإيراني إنما يدعو مناصريه من المحافظين الصاغين له دوما. الأمر الذي يكشف علم خامنئي بنفاذ أوراق الاقتراع، مع زوال ظهيرة يوم الانتخابات. وقبل ليلة الانتخابات وضعت مليشيا (البسيج) مدعومة بأنصار أحمدي نجاد في حالة تأهب قصوى. الأمر الذي يعكس علم ودراية الحكومة الإيرانية بأن النتيجة ستكون لصالح نجاد. وفي حدود الساعة 10.30 من صباح اليوم الانتخابي أعلنت وكالة (إيرنا) الحكومية أن نسبة المشاركة في القرى والنواحي بلغت 90%. ولا يخفى على المتابع أن القرى والأرياف والنواحي حسمت قرارها التصويت لصالح نجاد. وبحلول الظهيرة يكتشف أنصار مير حسين موسوي تصويت أشخاص كثيرين لمرات متكررة، وقد أُعد ذلك مسبقا بإدخال أقلام ذات حبرا قابلا للزوال.

سيناريو الملالي دق الركن الأخير في نعش الديموقراطية المزعومة بإيران. وما شوهد من اعتقالات وقمع وتعتيم إعلامي فضيع، وإطلاع العنان للمليشيات الجامحة، مصحوبة بدراجاتها النارية، تكشف حقيقة الديموقراطية المحذورة لدى الإسلاميين، فكانت الأحداث الأخيرة الجارية حتى الساعة إعلانا لانتحار ديمقراطية ولاية الفقيه.

محمد ناصر