كلنا يتذكر جملة رئيس الوزراء العراقي الأستاذ نوري المالكي الشهيرة في بداية عهده والتي أطلقها على الملأ علناً quot; لست رجل أمريكاquot; وهاهو مرة أخرى وفي قلب واشنطن يقول للأمريكيين أنه ممتعض من مناوراتهم غير المقبولة والتي تنتهك سيادة العراق واستقلاله بعد أن انكشف سر تفاوضهم مع قوى وجماعات مسلحة عراقية خارجة على القانون من بقايا حزب البعث المنهار والمنضوية تحت غطاء ما يسمى المجلس الوطني للمقاومة العراقية وكانت تلك المفاوضات السرية قد حدثت في أنقرة في تركيا وربما بعلم من بعض القيادات العراقية التي لها علاقات حميمة مع تركيا كنائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي أو غيره. لقد اعترف الأمريكيون كعادتهم البراغماتية بذلك ولم ينكروه بل لم يشعروا بأي حرج ولم يقدموا أي تفسير لائق ومقبول للسلطة العراقية الشرعية المنتخبة.

بعض القيادات العسكرية الأمريكية لاترغب بالاعتراف بأنها سوف تخرج من العراق كلياً إن آجلاً أم عاجلاً ولن يعد لها كلمة مسموعة في بلاد الرافدين ولن تستطيع إملاء أوامرها أو تمرير مخططاتها بسهولة وبدون إعتراض من قبل القيادات والقوى السياسية العراقية الوطنية. يتعين على الأمريكيين أن يفهموا ويتقبلوا أن العراق ليس ولاية تابعة يتحكمون بها كيفما يشاءون لأنهم اعتدوا بلا مبرر قانوني وبذرائع واهية وبلا تفويض من قبل الأمم المتحدة على بلد عضو مؤسس لهذه المؤسسة الدولية، صحيح أنهم ساعدوا الشعب العراقي على التخلص من الطاغية وحكمه الاستبدادي والوحشي لكن هذا لايمنحهم الحق بالتحكم بمصير هذا البلد ومستقبله وهم لم يفعلوا شيئاً جدياً لإخراجه من وصاية الأمم المتحدة وتخليصه من براثن البند السابع، كما أن الشعب العراقي لم يطلب منهم شن الحرب على العراق وتدمير بناه التحتية ومؤسساته، وقد تكون الإيجابية الوحيدة للتدخل العسكري الأمريكي هي إطاحة الطاغية وتسليمه للعراقيين لمحاكمته ومعاقبته على جرائمه التي لاتعد ولاتحصى، في حين تحول وجودهم كطرف محتل إلى مصدر للاضطرابات والفوضى والعنف والقتل العشوائي ومبرراً للعمليات الإرهابية بحجة محاربة المحتلين والتي أعلنها وتمترس خلفها كل من هب ودب من مجرمي الحرب من أتباع الدكتاتور المقبور أو من أتباع تنظيم القاعدة الإرهابي ومن لف حولهم أو تعاون معهم من عتاة المجرمين والقتلة الذين كلما سيطروا على منطقة حولوها إلى مقبرة جماعية وبقعة أحزان وبؤس وكتلة من المحرمات تسودها الحياة البائسة التي تفتقد لكل مظاهر الفرح ومباهج الحياة السعيدة والانفتاح وكأنها غارقة في القرون الوسطى حيث يهيمن عليها العنف والتخلف والمحاكم الإسلاموية الشهيرة بقطع الرؤوس وذبح الضحايا كالخراف وإخماد الأصوات المعترضة بقوة السلاح والنار. فلماذا يتفاوض الأمريكيون مع أمثال هؤلاء القتلة ومن الذي سمح لهم بذلك؟ لا أعتقد أن حكومة المالكي راضية وموافقة على ذلك أو على علم مسبق به.


إذا كان الاستقرار الأمني هشاَ فلأن الأمريكيون أرادوه أن يكون هكذا لكي يبقى العراق معتمداً عليهم في كل شيء يخص أمنه واستقراره وعافيته ولم يقوموا بأية خطوة جدية في طريق تجهيز وتسليح وإعداد وتأهيل الجيش العراقي وقوات الأمن والشرطة والاستخبارات العراقية لكي تقوم بحماية البلد ومنع القوى الإرهابية وعصابات المجرمين من أن تعيث بالأرض فساداً وتقوم بانتهاك القوانين وإشاعة الفوضى وممارسة جرائمهم بحرية وبلا رادع ولا خوف من عقاب أو عواقب.


العراق بحاجة لسلاح متطور وحديث لمواجهة المخاطر التي تتربص به داخلياً وإقليمياً ودولياً، وبإمكانه الحصول عليه من سوق السلاح الدولية ولا حاجة به للاعتماد على السلاح الأمريكي المقيد بشروط تعجيزية وبارتفاع أثمانه فبإمكان العراق شراء الأسلحة من فرنسا إلا أنه يتعرض لضغوط مكثفة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وما قصة المفاوضات السرية مع فصائل متمردة ومسلحة، والتلميح لبعض القوى السياسية المشاركة في العملية السياسية والمختلفة مع الحكومة المركزية أن بإمكانها التصرف كيفما تريد حتى لو استخدمت القوة وأن أمريكا لن تتدخل لحل النزاعات بين الأطراف المتنازعة حتى لو تطورت إلى مجابهات مسلحة لاسمح الله، سوى رسائل مشفرة ووسائل خبيثة لبعث رسائل ملغمة للعراقيين لكي لايخرجوا عن خط الطاعة للقيادة الأمريكية. أشيع أن الوفد العسكري الفرنسي الذي ذهب إلى بغداد للتفاوض بشأن صفقات سلاح فرنسي محتملة تعقد مع بغداد قد كان مراقباً على مدار الساعة من قبل الأمريكيين منذ لحظة وصوله إلى أرض العراق في شهر أيار الماضي فلم يغب عن المناقشات المستشار العسكري الأمريكي في وزارة الدفاع العراقية ولا لحظة واحدة وكما نقل دبلوماسي فرنسي بانفعال أن الخبير والمستشار العسكري الأمريكي كان حاضراً وسمع كل شيء بحذافيره مما دار بين وزير الدفاع العراقي عبد القادر العبيدي والوفد العسكري الفرنسي. فميدانياً بات على الجيش العراقي أن يكون مستعداً عدة وعدداً ليحل محل الجيش الأمريكي نظرياً وعملياً وبالتدريج من أجل السيطرة على مفاصل العملية الأمنية في العراق ولذلك فهو بحاجة لمعدات وتجهيزات ملائمة لهذه المهمة أي ضمان وتأمين الأمن والاستقرار وفرض النظام واحترام القانون في البلاد. وقد سبق لفضيحة شراء أسلحة وطائرات بولونية أن انفجرت في عهد وزير الدفاع العراقي السابق الهارب حازم الشعلان وكانت معدات خردة غير صالحة للاستعمال يعود صنعها للحرب العالمية الثانية، ثم صارت على تلاك كل لسان مما حدا ببطلها الوزير الشعلان للهروب من قبضة العدالة وكان هروبه قد تم بمساعدة قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية. وقد باع الأمريكيون للعراق طائرات نقل مستهلكة من طراز س 130 c 130 مجهزة بأنظمة مضادة للصواريخ وطائرات هليكوبتر من طراز بوينغ آ هـ 6 A H -6 مجهزة بصواريخ أرض جو و 350 عربة مصفحة من طراز LAV-25 و 140 دبابة من طراز آبرامز MIAI Abrams وهي نوعية وكمية غير كافية لتأدية هذه المهمة الخطيرة وقد حاول البريطانيون والايطاليون استغلال مشاركتهم في حرب إطاحة نظام صدام وغزو العراق أن يبيعوا أسلحتهم المستهلكة ايضاً. بيد أن بغداد انتبهت مؤخراً إلى إمكانية اقتناء معدات واسلحة عسكرية فرنسية كانت مستخدمة من قبل الجيش العراقي السابق في عهد النظام البعثي المقبور.

احتاج الأمر إلى إجراء انعطافة في التعامل السياسي والدبلوماسي العراقي الفرنسي من أجل التفكير بهذه الإمكانية أي عودة التعاون العسكري بين البلدين العراق وفرنسا منذ أن قام وزير الخارجية الفرنسية بيرنار كوشنير بعدة زيارات للعراق والرد عليها بزيارات قام بها الرئيس جلال الطلباني ونائب رئيس الجمهورية العراقي الدكتور عادل عبد المهدي وبالطبع وزيري الخارجية والدفاع العراقيين تلتها الزيارة التاريخية المفاجئة التي قام بها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي للعراق ورد عليها رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي بزيارة رسمية تبعتها زيارة مهمة لرئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيون لبغداد برفقة وفد كبير من رجال الأعمال الفرنسيين لإعادة الحياة إلى برنامج التعاون العسكري والتجاري والاقتصادي والثقافي والتربوي بين بغداد وباريس، وتم لاتفاق على شراء 24 طائرة نقل فرنسية من طراز EC 635 لم يتجاوز ثمنها 360 مليون يورو وقد أبدى قادة الجيش العراقي اهتمامهم بالحصول على 6 هليكوبترات من طراز Panthers SAR و 18 طائرة ميراج مقاتلة محدثة ومطورة و 14 هليكوبتر خفيفة من طراز Fennec و 6 طائرات صغيرة من طراز Meacute;deacute;vac بعضها للتدريب وبعضها للنجدة ومراقبة السواحل حسب ما ذكرته مصادر عسكرية فرنسية في وزارة الدفاع الفرنسية في باريس ونشرته صحيفة الفيغارو القريبة من الأوساط الحكومية الفرنسية. أما القوات البرية العراقية فقد أبدت رغبتها بشراء معدات عسكرية فرنسية حتى لو كانت مستعملة مثل دبابات آ أم إكس 30 و آ أم إكس 6 ت AMX 30 ndash; AMX 6-T.

وبالرغم من هبوط اسعار النفط الخام في الأسواق العالمية مما اصاب ميزانية البلد بعجز مهم إلا أن وزارة الدفاع العراقي ووزارة الداخلية يتمتعان بميزانية كافية لشراء مايحتاجانه من أسلحة ومعدات وأجهزة والعبرة بالنوعية وسرعة التسليم كما أن القوة البحرية العراقية ترغب بشراء 15 زورق مراقبة للشواطيء من طراز أوسيا Ocea وقاربين لتقديم الدعم اللوجستي من صنع فرنسي وإزاء هذا التغلغل الفرنسي قام الأمريكيون بممارسة ضغوطهم على الحكومة العراقية والمسؤولين العراقيين بغية التفكير بالعروض الأمريكية المغرية التي قدموها لمنافسة العروض الفرنسية لنفس تلك الأنواع من الأسلحة والمعدات للبحرية العراقية مما دفع الحكومة العراقية من أجل إرضاء الأمريكيين الطلب من الفرنسيين بإعادة النظر بعروضهم واسعارهم وقد قررت فرنسا تعيين ملحق عسكري في سفارتها في بغداد وبناء سفارة جديدة وكبيرة أسوة بالأمريكيين والبريطانيين تليق بمكانة فرنسا ودورها الدولي ونرجو أن تستمر وتيرة العلاقات الفرنسية العراقية بالتحسن والتطور نحو الأفضل بالرغم من الوجود الأمريكي الرابض على أنفاس العراقيين.

د. جواد بشارة
[email protected]