تناول الدكتور جابر عصفور مدير المركز القومي للترجمة بصحيفة الأهرام ( يوم 13 يولية ) بمشرطه المتمكن أوجه المأساة التى يعاني منها الخطاب الثقافي وشَرحها بإتقان علي منضدة البحث العقلاني المتأني البعيد عن الإنفعال.. وحدد أخطرها قائلاً أنها العنف والحدية في استخدام الصفات السلبية، والازدواج الذي ينبني عليه الوعي واللا وعي..

ومن عندي أضيف إلي هذه الأوجه، آفة إدعاء التفرد بإمتلاك المعرفة..

مصيبة المصائب علي كافة المستويات، أن يدعي طرف ndash; أي كان - إمتلاكه وحده للحقيقة أو للمعرفة.. لأن قناعة أحدهم ( فرد أو جماعة أو جهاز أو نظام حكم ) بهذا التفرد وتنامي الأنا لديه دعماً لها وسداً اذنيه عن سواها، يصيبانه بمجموعة من الملامح التي تصبح بمداومة الإدعاء ملازمة له وعنواناً عليه..

إمتلاك الحقيقة أو المعرفة يدفعان المدعي ndash; بحيازتها - إلي رفض كل صور التواصل مع الآخرين، لأنهم عنده أدني منه في سلم المعرفة.. ولأنهم مُتَعدون ndash; في عميق قناعته - علي الحقيقة التى لا يعرفها سواه.. ولأنهم متجرؤون علي أصحاب الفضل في الميدان الذي يخوضون فيه بأي صورة من الصور..

هذا الإمتلاك الذي يُجمع الخبراء والمحللون والشواهد التاريخية والتجارب الانسانية، علي استحالة توافره عند طرف بعينه.. لو وجد مجازا ولو في المُخَيلة.. فلابد أن يُلزم مالكه بالتواضع، وأول متطلبات التواضع أن ينكر المرء أنه عارف بكل شئ.. وثانيها أن يكون قابلاً للتعرف علي ما عند الاخرين.. وثالثها أن لا يسفه مقولة غيره.. ورابعها أن يؤمن بأن فوق كل ذى علم عليم.. وخامسا ان الله وحده هو الذي يملك الحقيقة..

لا احد يملك وحده الحقيقة.. لأنها تبعاً للناموس الإلهي موزعة بين البشر كل لما خُلق له.. ولأنها تطبيق لقاعدة التعاون فيما بينهم لعمارة الكون.. وتأكيد لدفع الناس للتعارف.. وتوثيق لحاجة المجتمع الإنساني المتواصلة لبعضه البعض.. ولأنها هي التى ترسم خارطة الحراك البشري في كل ميادين الحياة..

إدعاء إمتلاك الحقيقة يطمس رؤية المدعي ويغيب وعيه.. فهو وحده الذي من حقه أن يصنف الناس وهو وحده الذي يسمح لمن يشاء أن يقول أو أن يصمت.. وهو الذي بيده وحده أن يقول من هو الذي علي صواب ومن هم غير ذلك.. بل ويعتبر نفسه انه الوحيد الذي أنيط به الدفاع عن المجتمع في ساحات القضاء..

أول ما يصدر عن الخطاب الثقافي لمن يصنف نفسه مالكاً للحقيقة.. هو الإزدراء، فليس هناك من رأي أو عرض او تناول إلا وله عليه تحفظات تُجَرده في نهاية المطاف من كل مقومات العمل أو الإنتاج الابداعي أو النقدي أو التحليلي أو التقريري.. خطاب الازدراء دائما ما يكون متأفف في تناوله !! متعالي في عرضه.. يوحي بأن القائم به يقوم بوضع كمامة علي أنفه وفمه حتى لا تنتقل إليه عدوي ما يكتب عنه، ويعمد فور الإنتهاء من مهمته إلي غسل يديه وقلمه بالمواد المطهرة حتى لا تصاب بالأوجاع والأمراض..

غالبا ما يتعرض خطاب الازدراء الثقافي، لحق الآخر في تناول موضوع ما، ليس من زاوية علمية او قاعدة ايجابية.. لكن من اضيق الزوايا ونعني بذلك :

quot; من الذي يسمح بمثل هذه المهاترات quot; أو quot; من أين أتوا بهذه الافكار التي يتحدثون عنها quot; أو quot; من هؤلاء اللذين يتبجحون في تناول مثل هذه القضايا quot; أو quot; هذه مسائل لا شأن لكم بها quot; أو quot; من الصعب عليكم فهم هذه القضايا quot;.. الخ.. زاوية رؤية مفرطة في أنانيتها تفرز مصكوكات تتعمد انكار المنهج النقدي الصحيح وترفض المناقشة الهادئة المؤثرة التى من شأنها أن تثري الحوار الثقافي للمجتمع.. ولا يترتب عليها عرض صحيح لرؤية أخري، إنما هي قوالب هجومية تؤدي فقط إلي ترسيخ الرغبة في الازدراء..

وفي معظم الاحيان يلجأ هذا الخطاب للتطويل واللف والدوران واستخدام المترادفات والمحسنات وتكرار الشرح، إنطلاقاً من قناعة لديه بأنه كلما وسع من دائرة التمويه والغموض هزم الآخر وافحمه والقمه حجراً !! وأيضا من ثقة متناهية منه انه بهذه الكيفية يجذب إلي دائرته مزيد من المؤيدين.. كل ذلك تحت مظلة التجريح والتشفي والطعن واستدعاء غير العارفين أو السلطة ndash; لا فرق - دون ان يتقدم خطوة في مسالك النقد والعرض العلمي وتثيق الأدلة وتقديم البديل المعرفي..

كما يدور غالباً حول عدم ندية الآخر، التي نراها في وصف خطاب الإزدراء لكل ما هو مخالف بأنه دون المستوي.. وأنه لولا المسئولية لما نال شرف الرد عليه، لأن مثل هذه الافكار مصيرها في النهاية إلي مزابل التاريخ بوصفها ndash; من وجهة نظره الحدية - حشواً لا طائل من وراءه.. الخ..

يعمد خطاب الازدراء الثقافي من وراء ترسيخ عدم الندية ndash; علي فجاجته ndash; إلي محاولة اقناع المجتمع بخلوه من خاصية التكافؤ، ومن هنا لا يصح له أن يترك رصد او تحليل أو متابعة التفاعلات والتطورات التى تلحق ببنيته الاجتماعية لـ quot; كل من هب ودب quot; ممن هم ليسوا مالكين للحقيقة او للمعرفة..

لا يجد مدعي امتلاك الحقيقة أو المعرفة غضاضة في ان يتضمن خطابه الثقافي نوع او انواع شتي من التحريض ضد ما ومن يراه مخالفاً لمعتقداته هو.. تحريض السلطة أو تحريض المجتمع أو تحريض الافراد، لأن وقوعه المباشر والمستمر في جب هذه العقيدة المهترأة يصور له انه quot; الوصي الأوحد quot; علي المجتمع quot; والمدافع المنفرد quot; عن حقوقه.. ومن ثم يحق له ان يشير باصبع الاتهام هنا وهناك فتسارع الاطراف الأخري بتلبية ما ينزله من عقاب علي من اوقعته ظروفه داخل بؤرة ازدراءه..

الدكتور حسن عبد ربه المصري

استشاري اعلامي مقيم في بريطانيا [email protected]