(2 ـ 3)
الجزء الأول |
في ذلك المقهى المتواضع الذي كان يستقر قبالة الباب الفرعي لسينما سيروان بمدينة السليمانية، كان هناك تلاقح و لقاء و إمتزاج في الافكار و الرؤى و المواقف بين نماذج مختلفة من المثقفين الكورد و العرب الذين كما ألمعت سابقا كان غالبهم من الشيعة، وكان النقاش يجري في أجواء تصدح فيها مطربات إيرانيات مثل سوسن و مهستي و هايدهzwnj; و مطربين كورد مثل محمد ماملي و حسن زيرك و غيرهما.
أسماء من قبيل محمد الماغوط و حسين مردان و البير كامو و ريجيهzwnj; دوبريهzwnj; و مظفر النواب و عبدالله كوران و السياب و بودلير و مايكوفسكي و غيرها، كانت غالبا ماتتردد في الزوايا التي تقبع فيها هذه الشلة حيث دخان السيكاير و الاصوات المتداخلة و المتضاربة مع بعضهاو وجوه يغلب على بعضها الجدية فيما ترى في حفنة أخرى شيئا من اللاأبالية و العبث، ولم يكن غريبا لو وجدت أربعة على طاولة واحدة يتناقشون مع رابع على طاولة أخرى بعيدة عنهم نسبيا وكانوا يفضلون ومع هذا فلم تكن تسمع صراخا و هذا أمر كثيرا ماأفكر به عندما أراجع ذكرياتي مع ذلك المقهى و تلك الشخصيات التي غيب الموت البعض منها فيما شتت الزمن نفرا آخرا منها في آجم هذه الدنيا الغريبة.
والامر المهم و اللافت، كان الشأن الثقافي و الانساني هو الغالب على الخط العام للحوار رغم انه كانت تتخلله مزحات بخصوص النكات التي يتداولها الطرفين عن بعضهما، لكن الاهم من كل ذلك هو أنه كان هناك تفاهم غريب من نوعه بين الجانبين وكان النقاش يجري بهدوء تام و بعيدا عن الصخب و الصياح و الصوت العالي حيث كان هناك أخذ و رد وقبول و رفض بين الطرفين وكأنه نفس اسلوب و طريقة الحوار الذي يجرى اليوم في منتديات العالم المتحضر و من الجدير بالذكر ان العديد من هؤلاء المثقفين العرب ولكثرة إعادة تلك الاشرطة الغنائية كانوا قد حفظوا الكثير من الاغاني الكوردية و الفارسية.
وكان بين هؤلاء المثقفين، شاب أسمر نحيف اسمه عبود عبدالحسين من مدينة الديوانية على ماأتذكر، عبود هذا الذي كان دوما برفقته كتاب مميز، لم يكن يتكلم كثيرا وانما كان مستمعا جيدا، لكنه إذا نطق فقد كان الكلام ينهمر كالدرر من فمه حيث كان مثقفا من العيار الثقيل لكنه كان مغرما بالشاي و العرق المستكي (كان هناك حينها نوعين من العرق هما المسيحquot;بتشديد الياءquot;، والمستكي ولكل منهما طعمه الخاص) . عبود zwnj;هذا، الذي كان مأخوذا بشخصية زوربا و يعتبر الروائي الروسي دوستوفسكي أعظم كاتب في العالم على وجه الاطلاق، كنت تجده جريئا و صريحا و يتعمق كثيرا في النقاش، بيد أنه كان في نفس الوقت خجولا ولم يكن من الهين أن تنفتح قريحته للنقاش لو لم تكن الثمالة قد سلبته لبه، ولطالما ردد في ذروة سكره وهو يخاطب كأسه: (لاحياة من دون حليب السباع) و كلمات أعتقد أنها لمحمد الماغوط (سأسكر، سأسكر، مادام هناك تبغ و شوارع و عود ثقاب!)، غير أنه كان في بعض الاحيان تنتابه نوبات من الكئابة التي لم يكن حتى بإمكان العرق المستكي أن تفك طلاسمها و رموزها المعقدة، وكل الذي علمته عن سر هذه الكئابة عن طريق صديق آخر هو أن عبود قد خاض تجربة حب فاشلة وهو أمر يبدو أنه (وبالاضافة لحظه المتواضع في الوسامة) كان قاسما مشتركا أعظما بينه و بين واحدا من شلتنا الكوردية وهو الشاعر فاتح عزالدين الذي كان صريع غرام لاأمل من ورائه إذ كان يعشق أخت صديق له ولم يكن يجرؤ يوما على مكاشفتها وقد سطرت أنامل كل من عبود و فاتح قصائد شعرية رائعة في حبيهما الفاشلين وأتذكر من شعر فاتح عزالدين والذي ترجمته حينها للغة العربية و نشرته في جريدة الراصد التي كانت ترأس تحريرها الاديبة الرائعة عالية حمدون:
(لاتتوشحي بالسواد و ألق بالسواد بعيدا لاتتوشحي بالسواد و أعزفي في دار ضجري بيانو البشارة)، وقطعا لم تكن تلك الفتاة تتوشح بالسواد أبدا لكن فكر و وجدان فاتح هو الذي كان غارقا بضبابية سوداء ليس لها مثيل.
فاتح عزالدين هذا و الشاعر محمد عمر عثمان (الذي هو الان من الشعراء المشهورين)، لم يكونا يجيدا اللغة العربية إطلاقا فيما كان الناقد الراحل اوميد آشنا يتكلم عربية ركيكة تبعث على الضحك، لكنهم رغم ذلك كانوا يتسمعون لعبود لحظات إنفتاحه وكنت أنا و كوران مريواني نبتلي بالترجمة لفاتح و محمد والمصيبة أن عبود الذي كان يتحدث ببطأ شديد في حالة الوعي، كان عند سكره غزالا شاردا في الكلام ولم يكن يعيد الكلام مهما حدث ومن هنا فقد كنا كوران وانا ومن شدة إنسجامنا في حديث عبود ندعوهما للتريث.
عبود عبدالحسين، كانت له علاقات صداقة مع ثلة من الطلاب الاردنيين الذين كانوا يدرسون في جامعة السليمانية حينها ومن خلال هؤلاء الطلاب الاردنيين (الذين كانوا أعضائا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ جماعة جورج حبش) تعرفنا على أفكار و طروحات جورج حبش بخصوص القضية الفلسطينية و قضايا أخرى، وهنا اود الاشارة الى نقطة جمعت بين الشاعر كوران مريواني (الذي يقيم الان في السويد) و عبود عبدالحسين وهي كثرة تفرسهما برواد المقهى الذين كانوا في الغالب من العمال و الطبقات المحرومة وحتى أن هذا التفرس وجدت له إنعكاسا غريبا في أعماق صديقي كوران مريواني الذي فاجأني يوما عندما كنا نتمشى في الشارع الطويل الذي يؤدي الى سينما دلشاد بقوله:
هناك سر كبير أود أن أبوح به لكن أرجو أن تحتفظ به حاليا، ولما وعدته بذلك قال بهدوئه المعهود: بصراحة أرى الوضع السياسي في العراق لايحتمل و ان الشيوعية بشقيها التحريفية السوفيتية و الماوية قد وصلتا الى طريق مسدود واجد من واجبنا التحرك الجدي و التصدي المسؤول للوضع و تحمل المسؤولية التأريخية و يجب أن نؤسس حزبا عماليا حقيقيا يقود العراق الى غد و مستقبل أفضل) !! من يستمع لهذا الكلام لابد أن يعرف بأن البوح به كان في زمن حكم نظام البعث السابق والذي كان يعدم فيه المرء على الشبهة أو كما كان يقول عبود عبدالحسين: يعدم الانسان في العراق عالريحـة!
قبل أيام، وانا أتصل بكوران و أذكره بموقفه هذا أطلق ضحكة مدوية في التلفون حتى أنه من فرط الضحك لم يتمكن من التكلم بطريقة واضحة، لكنه إستدرك في النهاية ليقر بأنه حقا كان موقفا جنونيا و غريبا من نوعه، لكنه (والكلام له) كان رد فعل منطقي على الظروف الذاتية و الموضوعية التي كان يمر بها العراق.
كوران، الذي تبلورت لديه هكذا فكرة، لم يطرحها معي فقط وانما طرحها أيضا لدى أصدقاء آخرين، وكان ذلك تحديدا في عام 1977، وهو العام الذي شهد خروج تظاهرة ضخمة لكافة طالبات الدراسات الابتدائية و المتوسطة و الثانوية ضد قرار جائر للحكومة البعثية حينما فرضت تدريس كافة الدورس الادبية في تلك المراحل الدراسية باللغة العربية وفي الوقت الذي يجهل غالبية أهالي السليمانية اللغة العربية، فإنه لم يكن هينا تقبل القرار او مجرد تفهمه ولاسيما وانه قد جاء في ظرف كانت عملية التعريب و التبعيث الحكومية جارية على قدم و ساق في كافة أرجاء كوردستان وكان النظام وبحسب ماتملي عليه تلك السياسة يقتطع مدنا و قصبات من محافظة و يضيفها لأخرى، وأجد من المهم جدا أن اورد هنا قولا لعبود عبدالحسين و هو يشاهد بعينيه آلاف الفتيات القاصرات و اللواتي في مقتبل أعمارهن وهن يهتفن بأعلى أصواتهن باللغة الكوردية مامعناه بالعربية: ( بالكوردي بالكوردي لانريد العربي)، هذا النظام يتصرف وكأنه استعمار!
والحق، أن الشعب الكوردي ولحد هذا التأريخ العرقي البغيض الذي سطره نظام البعث، كان يحب و يرغب في تعلم اللغة العربية طواعية لكن هذا التصرف الاحمق و الاهوج و تلك السياسة الرعناء التي طبقها النظام بالحديد و النار، زرع في أعماق الشعب الكوردي إحساسا بالنفور من اللغة العربية و كرد فعل جمعي ضمني على الخط العام لهذه السياسة بدأ الكورد لايطلقون الاسماء ذات الاصل العربي على أطفالهم و طفقت الاسماء الكوردية الاصيلة تتردد بكثرة وحتى أن الادباء و المثقفين و الفنانين الذين كانوا حتى الامس القريب يكثرون من إستخدام مفردات عربية في كتاباتهم و نشاطاتهم من قبيل (الفكر، المعاناة، الجمالية، البراءة...الخ) بدأوا يجهدون أنفسهم بالعودة الى منابع لغتهم الام و التخلي عن مفردات باتت وكأنها لغة مستعمر مستبد و طاغ يبغي فرضها قسرا.
لكن، هذه السياسة الهوجاء المدمرة نجمت عنها أيضا تداعيات تبدو سلبية داخل مقاتلي الحركة التحررية الكوردية، حيث وللأسف بدأوا بسياسة حرق الكتب المدرسية التي كانت مكتوبة باللغة العربية لأن معظمها وقتئذ كانت تحمل في صدر صفحتها الاولى صورة صدام حسين ولأن هذا الطاغية كان يمثل رمزا مشؤوما بالنسبة للشعب الكوردي فإنه دفع بهؤلاء كي يعطوا أنفسهم الحق بتمزيق الكتب التي تحمل صورته، لكن المشكلة كانت تكمن في أن تلك الكتب مع الانتباه الى إستغلال النظام لها لغايات دعائية للقائدquot;الضرورةquot; فإنه كان لابد منها وانها كانت ضرورية لكي تستمر مسألة أهم، كما كانوا يغتالون أي مختار للقرى لمجرد الشبهة بانه متعاون مع السلطة، وحينها كنا في ذلك المقهى الصغير نعرب عن استنكارنا و ادانتنا لمثل هذه الاعمال و نرفضها خصوصا وان العديد من اولئك المخاتير كانوا يعانون الامرين من الجانبينquot;أي من جانب السلطة البعثية و الحركة الكورديةquot;، ولم نكن كمثقفين نريد أن نسبح و نحمد بالحركة التحررية من دون أن ننقد تلك المظاهر السلبية التي بدأت تعتريها وهي بالاساس كانت غريبة عنها.
وفي غمار تلك الايام السوداء من تأريخ العراق، زرت الناصرية بدعوة صديق كان اسمه ناهي وللأسف نسيت اسم ابيه، هذا الصديق الذي تعرفت عليه في أحدى ليالي السهر في نادي (ذوي المهن الصحية) الذي كان حقا من النوادي الرديئة و يقع خلف نادي الموظفين في السليمانية، وقد توثقت فيما بعد علاقتي به و تطورت، ناهي، الذي كان شابا بشوشا و شفافا و سريع البديهة، كان يشتهر بروح النكتـة و لطالما أضحكني من الاعماق، لكنه في نفس الوقت وعندما كان يتحدث في الجانب الاخر من الصورة، كان يزرع حزنا عميقا في أعماقي و يثير ضجرا و كئابة ليست لها حدود.
ناهي، الذي كان يقر دوما بأنه شاهد حي أمام التأريخ على جرائم البعث بحق الشعب الكوردي، كان يحثناquot;كمثقفين كوردquot;، أن لانندفع بعيدا بسب بتلك السياسات الحمقاء و نقطع كافة خطوط العودة و التواصل. ان الذي بيننا هو أكبر بكثير من هكذا سياسات مجنونة، هكذا ردد لأكثر من مرة رغم أنه كان يؤكد و يقسم أغلظ الايمان بأن هذا النظام لن يهدأ له قرار أبدا فهو كوحش هائج متعطش للدماء وإذا لم يبق له شيئا يدمره فإنه سيخلق شيئا في سبيل ذلك!
الناصرية أو (الشجرة الخبيثة) كما كان المثقفون العراقيون يصفونها على سبيل المزاح، هي واحدة من المدن العراقية التي كان لها دور هام جدا على الخارطة السياسية ـ الفكرية للعراق وانها كانت ملتقى سياسيا ـ فكريا ـ ثقافيا رفد العراق بالكثير الكثير، وعندما زرتها تلك السنة (وأعتقد أنها كانت أواخر عام 1977)، لبثت فيها عشرة أيام كنت خلالها وكأنني بين أهلي و أقربائي حيث شعرت بكرم الضيافة و طيبة المعشر و كل مايبعث على السرور و الغبطة ورغـم انني كأي مثقف كوردي ذهبت الى الناصرية وانا نوعا متحامل في أعماقي من هذه السياسة العنصرية المقيتة التي لجأ إليها النظام الدكتاتوري ضد الشعب الكوردي، لكنني لم أجد في الناصرية و انا أحتك و أتصل و أتعامل مع أبنائها أي شئ يدل على روح و أصل تلك السياسة المرفوضة من كل النواحي، ويومها قال لي ناهي وبمنتهى الصراحة، بأنه قد دعاني الى مدينته لكي أرى الجانب الايجابي من الصورة و لا أنجرف مع الجانب السلبي الذي لايمثل إلا رغبات ثلة من (الخارجين على الانسانية) كما كان يسميهم.
ناهي الذي عرف شغفي بقصائد مظفر النواب الفصحى، لفت إنتباهي الى أشعاره باللغة الدارجة سيما الى مقطع شعري في منتهى الرقة ملك لبي وحفظته لروعته و جمال معانيه، حيث يقول النواب فيه:
(ترافهzwnj; و ليل دك ريحان يا أسمر لاتواخذنهzwnj;
يلن كل دكة من حنجك شتل ريحان بالجنهzwnj;
جثير كزازك بكلبي و اكولن هاي حنيهzwnj;
من أتلك بالحلم يسمر يكع قداح بيدي)
وأجد من الواجب أن أشير الى أن ناهي كان قد تلى على مسامعي قبل ذلك قصائد أخرى للنواب باللغة الدارجة، لكنه وللمرة الاولى أسمعني شيئا وجدانيا غارقا في الذاتية المحضة لذلك الشارع الذي لايزال يثير لغطا كبيرا في الشارع الثقافي العربي، وللحديث صلة.
أسماء من قبيل محمد الماغوط و حسين مردان و البير كامو و ريجيهzwnj; دوبريهzwnj; و مظفر النواب و عبدالله كوران و السياب و بودلير و مايكوفسكي و غيرها، كانت غالبا ماتتردد في الزوايا التي تقبع فيها هذه الشلة حيث دخان السيكاير و الاصوات المتداخلة و المتضاربة مع بعضهاو وجوه يغلب على بعضها الجدية فيما ترى في حفنة أخرى شيئا من اللاأبالية و العبث، ولم يكن غريبا لو وجدت أربعة على طاولة واحدة يتناقشون مع رابع على طاولة أخرى بعيدة عنهم نسبيا وكانوا يفضلون ومع هذا فلم تكن تسمع صراخا و هذا أمر كثيرا ماأفكر به عندما أراجع ذكرياتي مع ذلك المقهى و تلك الشخصيات التي غيب الموت البعض منها فيما شتت الزمن نفرا آخرا منها في آجم هذه الدنيا الغريبة.
والامر المهم و اللافت، كان الشأن الثقافي و الانساني هو الغالب على الخط العام للحوار رغم انه كانت تتخلله مزحات بخصوص النكات التي يتداولها الطرفين عن بعضهما، لكن الاهم من كل ذلك هو أنه كان هناك تفاهم غريب من نوعه بين الجانبين وكان النقاش يجري بهدوء تام و بعيدا عن الصخب و الصياح و الصوت العالي حيث كان هناك أخذ و رد وقبول و رفض بين الطرفين وكأنه نفس اسلوب و طريقة الحوار الذي يجرى اليوم في منتديات العالم المتحضر و من الجدير بالذكر ان العديد من هؤلاء المثقفين العرب ولكثرة إعادة تلك الاشرطة الغنائية كانوا قد حفظوا الكثير من الاغاني الكوردية و الفارسية.
وكان بين هؤلاء المثقفين، شاب أسمر نحيف اسمه عبود عبدالحسين من مدينة الديوانية على ماأتذكر، عبود هذا الذي كان دوما برفقته كتاب مميز، لم يكن يتكلم كثيرا وانما كان مستمعا جيدا، لكنه إذا نطق فقد كان الكلام ينهمر كالدرر من فمه حيث كان مثقفا من العيار الثقيل لكنه كان مغرما بالشاي و العرق المستكي (كان هناك حينها نوعين من العرق هما المسيحquot;بتشديد الياءquot;، والمستكي ولكل منهما طعمه الخاص) . عبود zwnj;هذا، الذي كان مأخوذا بشخصية زوربا و يعتبر الروائي الروسي دوستوفسكي أعظم كاتب في العالم على وجه الاطلاق، كنت تجده جريئا و صريحا و يتعمق كثيرا في النقاش، بيد أنه كان في نفس الوقت خجولا ولم يكن من الهين أن تنفتح قريحته للنقاش لو لم تكن الثمالة قد سلبته لبه، ولطالما ردد في ذروة سكره وهو يخاطب كأسه: (لاحياة من دون حليب السباع) و كلمات أعتقد أنها لمحمد الماغوط (سأسكر، سأسكر، مادام هناك تبغ و شوارع و عود ثقاب!)، غير أنه كان في بعض الاحيان تنتابه نوبات من الكئابة التي لم يكن حتى بإمكان العرق المستكي أن تفك طلاسمها و رموزها المعقدة، وكل الذي علمته عن سر هذه الكئابة عن طريق صديق آخر هو أن عبود قد خاض تجربة حب فاشلة وهو أمر يبدو أنه (وبالاضافة لحظه المتواضع في الوسامة) كان قاسما مشتركا أعظما بينه و بين واحدا من شلتنا الكوردية وهو الشاعر فاتح عزالدين الذي كان صريع غرام لاأمل من ورائه إذ كان يعشق أخت صديق له ولم يكن يجرؤ يوما على مكاشفتها وقد سطرت أنامل كل من عبود و فاتح قصائد شعرية رائعة في حبيهما الفاشلين وأتذكر من شعر فاتح عزالدين والذي ترجمته حينها للغة العربية و نشرته في جريدة الراصد التي كانت ترأس تحريرها الاديبة الرائعة عالية حمدون:
(لاتتوشحي بالسواد و ألق بالسواد بعيدا لاتتوشحي بالسواد و أعزفي في دار ضجري بيانو البشارة)، وقطعا لم تكن تلك الفتاة تتوشح بالسواد أبدا لكن فكر و وجدان فاتح هو الذي كان غارقا بضبابية سوداء ليس لها مثيل.
فاتح عزالدين هذا و الشاعر محمد عمر عثمان (الذي هو الان من الشعراء المشهورين)، لم يكونا يجيدا اللغة العربية إطلاقا فيما كان الناقد الراحل اوميد آشنا يتكلم عربية ركيكة تبعث على الضحك، لكنهم رغم ذلك كانوا يتسمعون لعبود لحظات إنفتاحه وكنت أنا و كوران مريواني نبتلي بالترجمة لفاتح و محمد والمصيبة أن عبود الذي كان يتحدث ببطأ شديد في حالة الوعي، كان عند سكره غزالا شاردا في الكلام ولم يكن يعيد الكلام مهما حدث ومن هنا فقد كنا كوران وانا ومن شدة إنسجامنا في حديث عبود ندعوهما للتريث.
عبود عبدالحسين، كانت له علاقات صداقة مع ثلة من الطلاب الاردنيين الذين كانوا يدرسون في جامعة السليمانية حينها ومن خلال هؤلاء الطلاب الاردنيين (الذين كانوا أعضائا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ جماعة جورج حبش) تعرفنا على أفكار و طروحات جورج حبش بخصوص القضية الفلسطينية و قضايا أخرى، وهنا اود الاشارة الى نقطة جمعت بين الشاعر كوران مريواني (الذي يقيم الان في السويد) و عبود عبدالحسين وهي كثرة تفرسهما برواد المقهى الذين كانوا في الغالب من العمال و الطبقات المحرومة وحتى أن هذا التفرس وجدت له إنعكاسا غريبا في أعماق صديقي كوران مريواني الذي فاجأني يوما عندما كنا نتمشى في الشارع الطويل الذي يؤدي الى سينما دلشاد بقوله:
هناك سر كبير أود أن أبوح به لكن أرجو أن تحتفظ به حاليا، ولما وعدته بذلك قال بهدوئه المعهود: بصراحة أرى الوضع السياسي في العراق لايحتمل و ان الشيوعية بشقيها التحريفية السوفيتية و الماوية قد وصلتا الى طريق مسدود واجد من واجبنا التحرك الجدي و التصدي المسؤول للوضع و تحمل المسؤولية التأريخية و يجب أن نؤسس حزبا عماليا حقيقيا يقود العراق الى غد و مستقبل أفضل) !! من يستمع لهذا الكلام لابد أن يعرف بأن البوح به كان في زمن حكم نظام البعث السابق والذي كان يعدم فيه المرء على الشبهة أو كما كان يقول عبود عبدالحسين: يعدم الانسان في العراق عالريحـة!
قبل أيام، وانا أتصل بكوران و أذكره بموقفه هذا أطلق ضحكة مدوية في التلفون حتى أنه من فرط الضحك لم يتمكن من التكلم بطريقة واضحة، لكنه إستدرك في النهاية ليقر بأنه حقا كان موقفا جنونيا و غريبا من نوعه، لكنه (والكلام له) كان رد فعل منطقي على الظروف الذاتية و الموضوعية التي كان يمر بها العراق.
كوران، الذي تبلورت لديه هكذا فكرة، لم يطرحها معي فقط وانما طرحها أيضا لدى أصدقاء آخرين، وكان ذلك تحديدا في عام 1977، وهو العام الذي شهد خروج تظاهرة ضخمة لكافة طالبات الدراسات الابتدائية و المتوسطة و الثانوية ضد قرار جائر للحكومة البعثية حينما فرضت تدريس كافة الدورس الادبية في تلك المراحل الدراسية باللغة العربية وفي الوقت الذي يجهل غالبية أهالي السليمانية اللغة العربية، فإنه لم يكن هينا تقبل القرار او مجرد تفهمه ولاسيما وانه قد جاء في ظرف كانت عملية التعريب و التبعيث الحكومية جارية على قدم و ساق في كافة أرجاء كوردستان وكان النظام وبحسب ماتملي عليه تلك السياسة يقتطع مدنا و قصبات من محافظة و يضيفها لأخرى، وأجد من المهم جدا أن اورد هنا قولا لعبود عبدالحسين و هو يشاهد بعينيه آلاف الفتيات القاصرات و اللواتي في مقتبل أعمارهن وهن يهتفن بأعلى أصواتهن باللغة الكوردية مامعناه بالعربية: ( بالكوردي بالكوردي لانريد العربي)، هذا النظام يتصرف وكأنه استعمار!
والحق، أن الشعب الكوردي ولحد هذا التأريخ العرقي البغيض الذي سطره نظام البعث، كان يحب و يرغب في تعلم اللغة العربية طواعية لكن هذا التصرف الاحمق و الاهوج و تلك السياسة الرعناء التي طبقها النظام بالحديد و النار، زرع في أعماق الشعب الكوردي إحساسا بالنفور من اللغة العربية و كرد فعل جمعي ضمني على الخط العام لهذه السياسة بدأ الكورد لايطلقون الاسماء ذات الاصل العربي على أطفالهم و طفقت الاسماء الكوردية الاصيلة تتردد بكثرة وحتى أن الادباء و المثقفين و الفنانين الذين كانوا حتى الامس القريب يكثرون من إستخدام مفردات عربية في كتاباتهم و نشاطاتهم من قبيل (الفكر، المعاناة، الجمالية، البراءة...الخ) بدأوا يجهدون أنفسهم بالعودة الى منابع لغتهم الام و التخلي عن مفردات باتت وكأنها لغة مستعمر مستبد و طاغ يبغي فرضها قسرا.
لكن، هذه السياسة الهوجاء المدمرة نجمت عنها أيضا تداعيات تبدو سلبية داخل مقاتلي الحركة التحررية الكوردية، حيث وللأسف بدأوا بسياسة حرق الكتب المدرسية التي كانت مكتوبة باللغة العربية لأن معظمها وقتئذ كانت تحمل في صدر صفحتها الاولى صورة صدام حسين ولأن هذا الطاغية كان يمثل رمزا مشؤوما بالنسبة للشعب الكوردي فإنه دفع بهؤلاء كي يعطوا أنفسهم الحق بتمزيق الكتب التي تحمل صورته، لكن المشكلة كانت تكمن في أن تلك الكتب مع الانتباه الى إستغلال النظام لها لغايات دعائية للقائدquot;الضرورةquot; فإنه كان لابد منها وانها كانت ضرورية لكي تستمر مسألة أهم، كما كانوا يغتالون أي مختار للقرى لمجرد الشبهة بانه متعاون مع السلطة، وحينها كنا في ذلك المقهى الصغير نعرب عن استنكارنا و ادانتنا لمثل هذه الاعمال و نرفضها خصوصا وان العديد من اولئك المخاتير كانوا يعانون الامرين من الجانبينquot;أي من جانب السلطة البعثية و الحركة الكورديةquot;، ولم نكن كمثقفين نريد أن نسبح و نحمد بالحركة التحررية من دون أن ننقد تلك المظاهر السلبية التي بدأت تعتريها وهي بالاساس كانت غريبة عنها.
وفي غمار تلك الايام السوداء من تأريخ العراق، زرت الناصرية بدعوة صديق كان اسمه ناهي وللأسف نسيت اسم ابيه، هذا الصديق الذي تعرفت عليه في أحدى ليالي السهر في نادي (ذوي المهن الصحية) الذي كان حقا من النوادي الرديئة و يقع خلف نادي الموظفين في السليمانية، وقد توثقت فيما بعد علاقتي به و تطورت، ناهي، الذي كان شابا بشوشا و شفافا و سريع البديهة، كان يشتهر بروح النكتـة و لطالما أضحكني من الاعماق، لكنه في نفس الوقت وعندما كان يتحدث في الجانب الاخر من الصورة، كان يزرع حزنا عميقا في أعماقي و يثير ضجرا و كئابة ليست لها حدود.
ناهي، الذي كان يقر دوما بأنه شاهد حي أمام التأريخ على جرائم البعث بحق الشعب الكوردي، كان يحثناquot;كمثقفين كوردquot;، أن لانندفع بعيدا بسب بتلك السياسات الحمقاء و نقطع كافة خطوط العودة و التواصل. ان الذي بيننا هو أكبر بكثير من هكذا سياسات مجنونة، هكذا ردد لأكثر من مرة رغم أنه كان يؤكد و يقسم أغلظ الايمان بأن هذا النظام لن يهدأ له قرار أبدا فهو كوحش هائج متعطش للدماء وإذا لم يبق له شيئا يدمره فإنه سيخلق شيئا في سبيل ذلك!
الناصرية أو (الشجرة الخبيثة) كما كان المثقفون العراقيون يصفونها على سبيل المزاح، هي واحدة من المدن العراقية التي كان لها دور هام جدا على الخارطة السياسية ـ الفكرية للعراق وانها كانت ملتقى سياسيا ـ فكريا ـ ثقافيا رفد العراق بالكثير الكثير، وعندما زرتها تلك السنة (وأعتقد أنها كانت أواخر عام 1977)، لبثت فيها عشرة أيام كنت خلالها وكأنني بين أهلي و أقربائي حيث شعرت بكرم الضيافة و طيبة المعشر و كل مايبعث على السرور و الغبطة ورغـم انني كأي مثقف كوردي ذهبت الى الناصرية وانا نوعا متحامل في أعماقي من هذه السياسة العنصرية المقيتة التي لجأ إليها النظام الدكتاتوري ضد الشعب الكوردي، لكنني لم أجد في الناصرية و انا أحتك و أتصل و أتعامل مع أبنائها أي شئ يدل على روح و أصل تلك السياسة المرفوضة من كل النواحي، ويومها قال لي ناهي وبمنتهى الصراحة، بأنه قد دعاني الى مدينته لكي أرى الجانب الايجابي من الصورة و لا أنجرف مع الجانب السلبي الذي لايمثل إلا رغبات ثلة من (الخارجين على الانسانية) كما كان يسميهم.
ناهي الذي عرف شغفي بقصائد مظفر النواب الفصحى، لفت إنتباهي الى أشعاره باللغة الدارجة سيما الى مقطع شعري في منتهى الرقة ملك لبي وحفظته لروعته و جمال معانيه، حيث يقول النواب فيه:
(ترافهzwnj; و ليل دك ريحان يا أسمر لاتواخذنهzwnj;
يلن كل دكة من حنجك شتل ريحان بالجنهzwnj;
جثير كزازك بكلبي و اكولن هاي حنيهzwnj;
من أتلك بالحلم يسمر يكع قداح بيدي)
وأجد من الواجب أن أشير الى أن ناهي كان قد تلى على مسامعي قبل ذلك قصائد أخرى للنواب باللغة الدارجة، لكنه وللمرة الاولى أسمعني شيئا وجدانيا غارقا في الذاتية المحضة لذلك الشارع الذي لايزال يثير لغطا كبيرا في الشارع الثقافي العربي، وللحديث صلة.
التعليقات